إلى حبيبتي عزة
02-09-2012 11:10 AM

إلى حبيبتي عزة

عبد الغني كرم الله

تحية طيبة وبعد..

صباح أسمر جميل، كيف حالك، وأحوالك..

صحوت اليوم، وبي شوق غريب، ان اسمع لغط الصبية وهم في طريقهم للمدرسة، وأن تبتل عروقي »مثل صائم« بهذا اللغط الفطري، يبدو كقصيدة بلا وزن ، لغط بسيط ، يشعل ظلمة الروح، ويقضي ببساطة، على أيقاع آلي »صحو، حمام، ثرثرة، نوم، صحو، عمل«، كأني ترس دولاب يلف، بلا نبض داخلي، حتى فقدت »الأنا مذاقها« عليك الله شوفي الغربة دي كيف، غربة عن »الذات«، وذلك هو الحزن يا عزة، بل جوهر الحزن، ان تكون غريباً في قلب الجماعة..
أنت تعرفين موقع العنقريب الذي كنت أقيل فيه في ضل الضحى »معليش كنت أجر العنقريب من نص الحوش للحائط، وهو يخربش لك الحوش«، وكنت ألصقه على الحائط الذي يفصلنا عن طريق السور والمدرسة ، كنت أميز أصوت سعد من صوت هبة، وأحس بظهورهم المرهقة بشنط الدمورية، وسعاد بنت خالي، كعادتها، تسير وهي تقرأ بصوت عالٍ قصيدة تحاول حفظها، »يا إلهي يا إلهي يا مجيب الدعوات، أجعل اليوم سعيداً وكثير البركات«، كانت تنشدها بلحن عذب، ألم يقل بأن ود الحاوي، أعظم ملحن، وحسن بابكر أحسن ملحن، والسنباطي، وسعاد هذه؟ أقسم لك، هذا اللحن أسكرني أكثر منهم أجمعين، الآن وأنا اتذكر، بل غارق في التذكر، وكأني أهرب عبر الذكرى، لدفء قديم، ولغط الصبية، ذلك اللغط الحيوي، من نفوس لم تؤذها مناهج، وضغوط، ورهق تربية عملية خاطئة، نفوس لا يزال الحلم ديدنها ، ولا تزال بقايا فطرة وهالة الرحم تحيط بها، في حلها وترحالها..
يا لها من حياة بسيطة أفتقدها مللت صوت الآلة ، وإيقاع المدن الإسمنتية وعلوها، لمس الأسمنت غيم السحب، وطردها من عشها السماوي، والقمر، يظهر منزوياً بين فرجات العمارات، أريد وقع حوافر حمار وهي تخب على الأرض، أريد أن أشم رائحة البراسيم وهي محمولة على ظهره ، صوت الآلة يؤذي قلبي، وسمعي، صافرات انذار الاسعاف، شاحنات، صراخ آلي يومي ، لِمَ تصرخ الآلات هكذا ، ولا قلب لها ، ناهيك عن ما تنفثه مؤخراتها من سموم وغبار في حضن النسيم المسكين..
آه، من النسيم المثقل بالعطر، والتغريد، و الثغاء ، ونداءات الدراويش ، ولغط الأطفال ..
هل تصدقي، حبيبتي عزة..
>>>
وأنا أرجع من الوطن، ملأت حقيبتي بأغانٍ قديمة لسرور، والكاشف، ونانسي عجاج، وحمد الريح، والجابري، وربي يا عزة حين سمعت »نار الغربة والبعد«، بكيت، وكأن حمد الريح يغني لي، الغريب أني سمعت هذه الأغنية عشرات المرات، ولكن التجربة ، تكشف سر الوطن ، » وبضدها تتمايز الأشياء« ، مش؟ أغنية عذبة عن حلاوة الأهل، »شوق للأهل والصحبة، شوق لكل جميل في الحي« ، هل رأيتِ هذه الصورة للحي، التي ترفل في الأغنية، لقد دخلت الأغنية من باب الشوق، وشممت رائحة عراقي خالي، وسمعت صوت ماء نقاع الزير، وتذوقتها كحلوى، »نار الغربة« تفعل أكثر من ذلك يا عزة..
لم يا عزة؟!! أثناء صداح الأغنية، والموسيقى تعطر المكان، والقصيدة تتوغل بكل صورها في قلبي، أحس بواقع الأغنية، واقع ملموس، يتلاشى واقعي، ويصير التذكر واقعا حالما ، معاشا ، »الأهل و الصحبة« ، حتى الأموات من الأهل والصحبة، توقظهم الأغنية، وتتهلل أساريرنا معاً، عند لقائي بهم، بعد طول غياب، فالقبر، كالمسافة، تقتل هي الأخرى، الأغنية أشبه برجل بلقيس، الرجل الذي أتى بعرشها في لمح البصر، تأتي الأغنية بالماضي الساحر كله، بوطني، حتى الجبال تحملها كحبة قمح، في راحتها الكريمة، وتضعها في سويداء قلبي، شوق للأهل والصحبة، حتى الممالك الغابرة يا عزة، قامت وغنت في عرس تذكري لك، عزة العظيمة..
شوق لكل جميل في الحي ، »يا حاجة سعاد كيف أصبحتو، باب الزنكي يصر من فتح خالي له بعكاز خشبي، الليلة كورة قوية بين فريق ورا وفريق قدام ، يا أولاد تعالوا العصرية ساعدوني في زراعة القمح في حواشتي«..
>>>
زمان، بل زماااااان، كنت أضحك من ابن بطوطة، ومن الإدريسي ومن كل الرحالة، أيكتبون عن مدن؟ هل تحب المدن، والشوارع، والأزقة، هل يعشق الأنسان طريقا ترابيا بسيطا يشق الحلة ؟ هل يعشق الانسان سورا ، مجرد سور من طين ؟ هل تبكي الروح ، حين تتذكر مدينتك البعيدة عنك، وقريتك، وشجركم، وهمومك القديمة؟؟
واليوم صرت مدمنا لأدب الرحلات، أبكي لإيثاكا التي حرم منها يوليس، وتمنى أن يرى، بعد غيابه سبع سنوات »مثل مصطفى سعيد«، أن يرى دخان حريقها »شفتي مدى الشوق، وشاعريته«، وتذكرت النبي عليه السلام، حين جلس على صخرة وبقربه أبي بكر، وهم يبكون، بلى يا عزة »شوقا لشعاب مكة«، بعد ان هاجر عن مرتع طفولته، وشبابه، ذلك اليتيم العظيم، الحنون الخلاق، يقشعر قلبه لمرتع طفولته، يشتاق لحجارة مكة، يشتاق لحجر يا عزة ، أليس هو القائل : »جبل أحد يحبنا ونحبه«، الإصغاء لقلب المكان، هو الشعر..
واليوم رف كتبي ملئ بحكايات الوطن، كل يوم أضحك مع شوقي بدري وأنا اتسكع في حواري ام درمان، وأبكي لوصف معاوية نور للخرطوم مطلع الثلاثينيات، وتمنيت ان أركب الترام معه، وأشق غابة خضراء، من القصر الجمهوري وحتى رأس كوبري أم درمان، »أين هي الآن من غابة الأسمنت«، صرت مجنونا بالخرطوم ، و مدني، و كسلا، والعسيلات، و ام ضبان، و عطبرة ، مثلك ، حبيبتي عزة، اسمع نبضها، أتوق لأساريرها وهي تصحو الصبح، مشرقة بحلم بسيط، صحبة، وقوت، وتأمل وجيرة، وقضاء حاجة، وملء كراس بنشيد، أو مقال جغرافي، وبناء أوضة طين، »أي سكينة توهب من سحر تلكم الحياة، حين ترنو الحياة لأصلها، وجورها، وسكينتها المباركة في القلب«..
>>>
هل تصدقين ، شكرت الله أنه خلق موهبة »التذكر«، وبركة الذكريات، صارت الذكريات في حمى الوطن قصيدتي المفضلة، ارقد بهدوء، كعابد يوجي في تأمله، ثم أسرح ببراق التذكر لوطني العزيز »ياه نسيت نانسي عجاج، ألا يذكرك صوتها بأنها لا تغني ، ولكنها تبكي ، لما سمعت »ليه بنهرب من مصيرنا«، ومضت تمط كلمة مصيرنا، حتى صارت هي مؤلفة القصيدة، بل شعور الشاعر، والملحن، حرُق قلبها، وجعل مأساة كربلاء تحنن لسانها، فخرج صوتها من حنايا ضوء الغروب الحزين ، الذي يملأ الفضاء بسر الرحيل، كل أطياف الرحيل، الرحيل يا عزة..
بالأمس شكرت عمي العظيم حسن نجيلة، وأنا أطالع فصلا كاملا ، من سفره ، »ملامح من المجتمع السوداني« تصوري فصلا كاملا في وصف الخرطوم، في درته الرائعة ملامح من المجتمع السوداني »تعالي انتي ليه ما سمو شارع باسمو؟ ولا جامعة، أو حتى بقالة باسم حسن نجيلة«، سرحت معه، وخاصة في دار »فوز«، وسمعت معهم لحن قصيدتك الأولى، عزة في هواك، كان اللحن مرهفاً لخليل فرح، اراد أخراج لحن من مزامير داؤود، من الجنة الأولى، يليق بك، وبأصالتك وجمالك الأسمر الفريد ، حاول ان يسقي اللحن بدموع الأرامل وعرق الفلاحين، وشهد العروس، وكان..
حبيبتي عزة، دمت بخير، توقعي مني الأسبوع المقبل رسالة أخرى، فلا حد لشوقي، ان شاء الله، وسأحكي لك عن غلوطية، من يعشق ام درمان أكثر، علي المك، أم شوقي بدري، من بربك يا عزة ، حدسك يعرف ؟؟
كم تعجبت من عشقهم لام درمان، وكل عشق وجه مختلف، ففيهم من سحرته سيرتها المعلنة، ومنهم من سحرته سريرتها الباطنة، من الاشقياء، وخفاف الظل، والحرامية..
إنها أم در يا عزة.. إنها القلب..
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته





تعليقات 4 | إهداء 0 | زيارات 3821

خدمات المحتوى


التعليقات
#292610 [رشيديه]
1.40/5 (10 صوت)

02-10-2012 09:38 PM
تعرف يا اخوى كلماتك نزلت بى وين. هناك فى الشمال و اغمضغ عينى وارانى اقفز قفزا احمل شنطة كتبى الى مدرسة مروى شرق معى لفبف من اقرانى بنات واولاد شبا ورائحة البريم وزهور الليون و النه تعطر دربنا ونتلفت( لعل عمى الساعورى او عمنا عوض رحمه ) يمر ويقلنا بعربته او بصه. يا لله منها ذكريات.فلندعو الله ان يمد عزه بالعافيه.


#292290 [zezo]
1.40/5 (10 صوت)

02-10-2012 10:32 AM
How much i miss my Home.
اشتاقك يا وطني واتنفس عشقك شهيقا وزفيرا. ارحل للوطن مع كل كلمة واغنية وقصيدة واعود لاجد المسافات والفواصل اكبر من كل ممكن .اشتاق للنيمة والحمام يتطائر في الحوش يبحث عن الفتريتة المتناثرة هنا وهناك.اشتاق لريحة زهرة دقن الباشا في الصباح وهي تعطر الشارع بينما نتصافح بي كيف اصبحت وان شاء الله طيبين ...اشتاق للزهج الذي نشتهر به كسودانيين عند اي موقف او صف لاي معاملة. اشتاق لريحة المطرة لما تلمس الارض العطشانة. رغم قسوتك وجفافك الا انني مسكون بحبك يا بلد.


#292248 [Abalang]
1.40/5 (12 صوت)

02-10-2012 09:24 AM
وعليكم السلام ورحمة الله تعالي وبركاته يا عبد الغني كرم الله

تمضي احرفك مثل شفرات حادة مخلفة اثارا حنينة لا تمحي ، عبارات فخيمة تنضح بحب هذا الوطن، وكما ابتعثت فيك اغنية حمد الريح ذلك الشوق، ابتعثت فيني كذلك كلماتك ذلك التضارب المخزي في الشعور وكاني اساق قربانا لاجل الشمس .
لقد رايت نفسي باثر كتابتك هذي و كاني اقف ومعي آخرون علي حافة شارع مترب وحقائبنا الحديدية الصدئة تحدث جلبة في انتظار بص المنطقة الوحيد ليقلنا اينما سار
ورغم حنيننا المترع هذا ودغدغة موسيقي الكون وتلك المؤثرات الصوتية التي يصنعها قوم لنا ، نحبهم ويحبوننا - كما ذكرت - الا ان وجهتي ربما تختلف عن وجهاتهم جميعا عند نقطة ما ، واحسب تماما ان تلك النقطة ستؤدي حتما نحو المجهول

ودمت بالف خير ودامت احرفك تضئ عتمتنا هذه


#292114 [عوض]
1.40/5 (13 صوت)

02-09-2012 10:12 PM
عشنا معاك.. ذكرياتك الجميلة..

ونحمد الله معك.. على نعمة التذكر.. كما نحمده على نعمة النسيان..

نراجع.. جميل الذكريات.. نغرف من زيرها البارد موية .. نغسل بيها وش حرقتو الغربة.. والشوق لي عزة..

يرطب شوية.. وتاني الغربة تلفحو..


»يا إلهي يا إلهي يا مجيب الدعوات، أجعل اليوم سعيداً وكثير البركات«

وبارك الله فيك..

أستاذ/ عبد الغني..


عبد الغني كرم الله
عبد الغني كرم الله

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة