ربطة مساويك
02-23-2013 01:18 PM


ودعت القضارف مساء يوم 16 فبراير 2013م أستاذ الأجيال أحمد فضل الله الشايقي،معلم وعالم اللغة الانجليزية بعد حياة أعطي فيها الناس كل شيء وقنع منهم ومن دنياهم بأقل القليل، كأروع ما يكون الزهاد الذين يتخذون من دنياهم مطية لأخراهم. قال رسولُ اللهِ‏ِ (صَلَّيَ اللهُ عَلَيهِ وَسلم): الزُّهدُ في الدنيا قَصرُالأمَلِ ، وشُكرُ كُلِّ نِعمَةٍ ، والوَرَعُ عن كُلِّ ما حَرَّمَ اللّه‏ُ. وقال الإمامُ عليٌّ كرم الله وجهه: إنَّ مِن أعوَنِ الأخلاقِ على الدِّينِ الزُّهدَ في الدنيا، وقال الإمامُ الصّادقُ: جُعِلَ الخَيرُ كُلُّهُ في بَيتٍ ، وجُعِلَ مِفتاحُهُ الزُّهدَ في الدنيا .
تتلمذت علي يديه في عام 1962م في مدرسة حنتوب الثانوية، عطّر الله ذكراها، وهو في بدايات عمله في محراب التعليم، ورغم اكتظاظ المدرسة آنذاك بعمالقة معلمي اللغة الإنجليزية من البريطانيين والسودانيين، إلا أنه وجد موطيء قدم وسطهم وغدا معلما مرموقا قريبا إلى نفوس تلاميذه وعقولهم،عاشقا لمهنته، يؤدي عمله بروح وورع العابد. زاوج بين ما كان فيه من تصوف وزهد وحبه للموسيقى.التصوف "رياضة النفس ومجاهدة الطبع" والموسيقى تواكب الفطرة الإنسانية وتطرب النفس وترقق المشاعر، والتصوف والفن كلاهما من مفردات عالم الوجدان. أثار دهشة الجميع معلمين وطلابا عندما اعتلى خشبة مسرح المدرسة ليعزف على آلة موسيقية شاهدناها لأول مرة وهي "الهارمونيكا" التي أخرجها من جيب جلابيته (الختمية) فلم تجد الآلة ولا العازف ترحيبا أول الأمر بحكم عادة النفور الغريزي من الجديد المجهول ثم تحول ذلك النفور إلى إعجاب وتصفيق حاد حينما فك لهم طلاسم تلك الآلة المجهولة وأخرج من أحشائها أجمل ألحان الكابلي صديق عمره، وانتشى الحاضرون، وبقي الحدث راسخا في الذاكرة. ولكن أستاذنا ما لبث أن زهد في الموسيقى.

ابتعثته وزارة المعارف لإنجلترا حيث أحرز درجة الماجستير في علم الصوتيات أو ، حسب القاموس،علم تمثيل أو تصوير الأصوات أو نظام الأصوات الكلامية في اللغة الإنجليزية، وقد صححني بعد سنوات وبتواضع العلماء بقوله أنه قد تخصص في فرع واحد، لا أكثر،من فروع ذلك العلم الواسع. ولكن لم يرق له البقاء في العاصمة والتدريس في جامعة أم درمان الإسلامية أو معهد المعلمين العالي وآثر العمل في القضارف معلما في مدرستها الثانوية ثم مديرا لنفس المدرسة رغم ما في ذلك من بعد عن الأضواء الأكاديمية وفرص الترقي، فالرجل زاهد في كل ذلك مثلما زهد في الإغتراب حينما عاد،تاركا الجمل بما حمل، بعد تجربة قصيرة لم تستمر إلا لأشهر قليلة في إحدى الدول الخليجية. ألف أهل القضارف منظره لسنوات طويلة وهو يقود دراجته كل يوم من البيت إلى المدرسة برضاء وقناعة نفس، حتى أجبرته سنوات العمر على التخلي عن ركوب الدراجة والمشي في معظم الحالات.استوعب الثقافة الأنجلو ساكسونية أيما استيعاب وغاص في أدق أسرار لغتها ومجاهلها ولكن ذلك لم يستلب شيئا من أصالته وصفائه الروحي وزهده الصوفي.
زهده في الدنيا لم يمنعه من المجاهرة بكلمة الحق بكل شجاعة.شهدته في أحد مساجد مدينة القضارف وهو يتصدى بقوة لمن يرغب في تحويل المسجد إلى مسرح للدعاية السياسية، وشهد المصلون الأستاذ الهاديء الزاهد وهو يخرج عن صمته وهدوئه لينتفض في وجوه بعض المتسيسين العاطلين من التقوى ويذكرهم بأن "المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا"، فانتصرت يومها قوة الحق على دعوة الباطل، واختفت الدعاية السياسية بكل أشكالها بما فيها تلك التي ترتدي ثوب الدين، وعاد ذلك المسجد مكانا خالصا لعبادة الله وحده لا شريك له.

رجوته ذات مرة أن يطلب شيئا أرسله له من السعودية مع أول قادم للقضارف، فقال بصدق شديد إنه يرجو أن أرسل له "ربطة" مساويك من المدينة المنورة. يا أستاذي.. الناس يطلبون الأجهزة أو على الأقل يطلبون عمم التوتال وفاخر الأقمشة، ولكنه رفض رفضا باتا تلقي أي شيء آخر غير ربطة المساويك. قلت له إن المساويك نفسها تستوردها السعودية من السودان ومن بلدان أخرى، فقال إنها بعد ذلك تغتسل بعبق المدينة المنورة وتتنفس هواءها الطيب وتكتسب بركتها. وكان له ما أراد، وكان نصيبي أطنانا من الشكر كما لو كانت الهدية سيارة "هايلوكس" وليست مجرد ربطة مساويك. يا لزهد العارفين! اختزل متع الحياة الدنيا في ربطة مساويك.
رحم الله أستاذي الزاهد أحمد فضل الله الشايقي، الرجل الودود، خفيف الروح، الذي عاش على هامش الدنيا،وهي الدنيا التي وصفها الفيتوري بأنها "لا يملكها من يملكها ..أغنى أهليها سادتها الفقراء .. والغافل من ظنّ الأشياء هي الأِشياء". غادر أستاذنا الدنيا خلسة وما في قلبه غل على أحد وما في قلب أحد غل عليه، فله دنياه ولهم دنياهم.
يرحمنا ويرحمه الله.


[email protected]





تعليقات 3 | إهداء 0 | زيارات 1251

خدمات المحتوى


التعليقات
#593171 [جمال فضل الله]
4.07/5 (5 صوت)

02-23-2013 03:02 PM
رحمه االله يا ىاخي عبدالله احمد يوسف علقم. انا اقراء عمودك متى ما لاقيته في الراكوبة ولكني لا اتدكر انه كان مدرسا في حنتوب في تلك السنة. فانا من ابناء كسلا لو تدكرني وتخرجت من حنتوب عام 63. على كل شكرا ويرحمه الله ابن القضارف البار.


ردود على جمال فضل الله
United States [عبدالله علقم] 02-23-2013 05:36 PM
تحياتي أخي جمال وربنا بدبك الصحة والعافية، وسعيد جدا أسمع منك وعنك ،وأذكر جيدا وعلى وجه الخصوص رحلات القطار التي كانت تجمعنا كسلا -القضارف- مدني وبالعكس مع إخوة آخرين في أزمنة جميلة مضت. درّسني الأستاذ أحمد فضل الله في ثانية غزالي/ ثالثة غاندي إن صدقت الذاكرة وكان من ناشئة الأساتذة.
رعاك الله أخي جمال ولك أطنان كثيرة من الود والمنى وأكون سعيدا لو رالتني عبر عنواني الالكتروني


#593114 [صديق الشيخ حمد النيل]
4.07/5 (5 صوت)

02-23-2013 02:12 PM
أخى ود علقم رحم الله الأستاذ الجليل رحمةً وآسعةوجزاه على زهده وورعه جنة عرضها السموات والأرض .


ردود على صديق الشيخ حمد النيل
United States [عبدالله علقم] 02-23-2013 05:37 PM
جزاك الله خيرا ، والله يتولى الجميع برحمته


عبدالله علقم
عبدالله علقم

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة