المقالات
مكتبة كتاب المقالات والأعمدة
كمال الجزولي
هُدهُدْ: نُقُوشٌ عَلَى ذَاكِرةِ الفَقْد!
هُدهُدْ: نُقُوشٌ عَلَى ذَاكِرةِ الفَقْد!
06-08-2013 02:45 PM

(1)
لطفولتنا مذاق بليل الفريك بالسَّمن البلديِّ، ومصابيح الشَّرافة تزدهي بألوانها المشعشعات على حوافِّ الألواح، تماماً كنساء جحا يزدهين بشلوخهنَّ المضيئات على صناديق الحلوى وجدران المقاهي، وسيف الحاوي الخضر يشطر ابنه الحسين إلى نصفين، ثمَّ ما يلبث أن يعيده كاملاً أمام أعيننا الواجفات وأنفاسنا المبهورة.
ولها، لطفولتنا، اضطرام المخايل البكرة في المساءات المنزليَّة، بأحاجي الفواطم السَّمحات، والفوارس الأشدَّاء، وصيحات الهنود الحمر تهبُّ مع برودة النَّسمات من نواحي برمبل والوطنيَّة. ولها احتدام أشواقنا النَّاهدة، طوال النَّهارات المدرسيَّة، لسباحة الظهيرة من بحر اب روف إلى بحر بيت المال إلى خور اب عنجة، فنعود بغبشة مفضوحة، وشهيَّة مفتوحة، حتى إذا غيَّمت العصاري، ونشَّرت عبقها الفوَّاح، ولبقها الرائق، انطلقنا، نحن زغب حواصل الاستقلال، وقتها، وبشريات باندونق، وأحزان توريت، وجلالات حلايب، ونداءات "المجدُ لمين"، و"يا بني السُّودان"، و"يا شباب كوريا"، و"أيها المبعوث فينا"، و"منقو قل لا عاش من يفصلنا"، نملأ سوح المدينة، وأسواقها، وأزقتها، من الرباطاب إلى الكباجاب، ومن المسالمة إلى المغاربة، ومن الموردة إلى العمدة، ومن ودنوباوي إلى اب كدوك، ومن حي العرب إلى حي الهجرة، ومن حفرة كولودو إلى حُفر ود دلوق، مهرجانات من البللي، والدافوري، وسجَّك بجَّك، وشليل وين راح، والتقافز المتعاكس نتبارى فيه من ترماج الاسكندراني الى ترماج ود العمدة، حتى إذا صرنا إلى نواحي السُّور انخرطنا في طراد لا يفتر لأقوام من الفراش، والكُدُندار، والجَّراد، كلٍّ في موسم لا يتأخر عنه ولا يتقدَّم، وأجناس شتى من طيور مزقـزقات ملونات، نصـطنع لهـنَّ، بكلِّ ما حـبانا الله من مهارة وحذق، أشكالاً من نبلان سديدات، وألواناً من حبائل لا تخيب.

(2)
على طقوس الانسجام اليوميَّة تلك شببنا، في بقعة الإمام عليه السَّلام، من مختلف القبائل والأحياء والمدارس، وقطعنا إلى بيوت بعضـنا البعض مشاوير التَّوادد العذبة بطول وعـرض هـذه "المـدينة فـي القـرى .. القـرية في المـدائن"، على قـول ود المـكي، فأدام الله المعروف، ومدَّ حباله إلى الأهل، وإلى أهل الأهل، بل وإلى جيران الأهل، تماماً كما في أيَّة قرية صغيرة وادعة! سوى أن مشوار التَّوادد بين بيوتنا، جهة السُّوق الكبير، وبين بيوت ناس دار صليح، نواحي البَحَر، كان له مذاق آخر!
في (ناس دار صليح) كان نديدنا الحبيب هُدهُد، وفي مهرجانات العصاري تلك تعارفنا، وتآلفنا، وتحالفنا. جمعتنا معهم مقاعد (بيت المال)، و(أب قرجة)، و(شيخ الطاهر)، و(النَّصر)، و(الأهليَّة)، و(الأميريَّة)، والبحث عن الكنز، وزيارتنا إلى ..، وحصص الفلاحة، والمدونة الطبيعيَّة، والجمعية الأدبيَّة، والمكتبة المدرسيَّة، ومباريات المنازل، والتنافس السَّاخن، والمنازلات المشهودة. نغبطهم، كنا، على (البَحَر)، و(اللبَخ)، و(تمر ابونا)، و(نذور جليس)، و(ميدان البحيرة)، و(غابة الحراز)، و(أكَمَات المِسْكِيت)؛ ويغبطوننا، كانوا، على (التراميج)، و(السينمات)، و(باسطة بيِّن)، و(دندرمة برعي المصري) و(الهلال والمريخ) .. في زقاق واحد!
يتباهون علينا، كانوا، بثلة عباقرتهم التي قد لا تبدأ بالطيب السَّراج، واسماعيل العتباني، وطه حمدتو، ومحجوب عثمان، ولا تنتهي بعز الدين يوسف (ثيرد باك) الشاطئ الحريف، وعازف العود الحاذق بأوركسترا الإذاعة، وحتى الأولاد المبشرين، وقتذاك، بشارة والدِّحيش وأخيه الأكبر كمال عثمان، وذلك في بعض امتداداتهم الجُّغرافيَّة من أوَّل بيت المـال، شــمالاً، إلـى آخـر (سـوق ام سويقو)، شرقاً، و(سوق الشجـرة) غــرباً؛ وكـنا، فـوق تباهـــينا بعـبد الله بك خليل، واحمد محمد صالح، والوسيلة، وعبد الخالق، واحمد حسن عبد المنعم، وعبد السَّلام ابو العلا، وحسن الظاهر، وبشير البكري، وأحمد بشير العبادي، وربَّما أزهري نفسه، نتباهى عليهم، أيضاً، سواء في (حفرتنا)، أو في بعض امتداداتها الجغرافيَّة، من (الرِّكابيَّة) و(العصاصير) إلى (السَّيِّد المكي) و(الشُّهداء)، بعلي المك، وحسن عوض أبو العلا، وإبراهيم حجازي، والسِّميح، والتَّقر، وعبده مصطفى، والطفل المعجزة كمال ترباس، يشجي غرارتنا، مطالع المساءات الحالمات، تحت أعمدة النور وفوق عتبات البيوت، وأرجلنا لمَّا تزل معفَّرة بغبار الدافوري الحار!
ثم اختلفنا الى ثانويات متباعدات، وجامعات شتَّى، وتخرَّجنا، من داخل ومن خارج البلاد، وكبرنا، وكبرت انشغالاتنا، وغفلاتنا عمَّا كانت الأيَّام تدسُّ لنا طيَّ كرِّ مسبحتها، فما جال بخواطرنا النَّديَّة، وقتها، بل ذهلنا، الذُّهول كله، عن أن السُّودان، الذي ما كنا نخاله سوى مرتع خضرة دائمة لصبا يانع لا يزول ولا يذوى، يمكن أن يخبِّئ لنا كل هذا (السُّكَّري)، و(ضغط الدَّم)، و(ضيق الشَّرايين)، والاندحار تحت سنابك الرَّكاكة، والكذب، والزَّيف، والإحباط، والحزن الكثيف، والأسى الممضِّ، وعدم المواتاة، والكدر السِّياسي والثقافي، ما يفضي بنا إلى مثل هذا الكمِّ المهول من موت الفجاءة، وعصف (الذَّبحات الصدريَّة)، و(السَّكتات القلبيَّة)، و(السَّكتات الدّماغيَّة)!

(3)
مساء الاثنين هاتفته. كنت فرغت للتَّو من تدقيق حلقة جديدة من كتابته الرَّائعة عن (قصيدة الجَّمال بين التجاني وتشايكوفسكي)، قبل أن أدفع بها إلى المطبعة، يوم كنت أشرف على إصدار (عدد الثلاثاء المتميِّز) من جريدة (الصَّحافة) أوان ميلادها الثاني في خواتيم تسعينات القرن الماضي. وعاتبته، أستغفر الله، على إخلافه وعده لي بمباشرة ذلك الأمر بنفسه، وألا يزيدني به رهقاً على رهقي، فقلت له، وقد كانت تلذُّ لي مشاغبته:
ــ "كيكي! إنت فاكر نفسك كافكا عشان أصحح ليك بروفاتك"؟!
ولم أنتبه، يا لله، لم أنتبه قط إلى أنه لم يطلق، كما عهدي به، ضحكته المجلجلة تلك التي يهتزُّ لها جسده الوافر كله، بل أجابني بحبال صوتيَّة غاية في الوهن:
ــ "لا، فاكر نفسي .."!
وذكـر اسـم أديـب كـان أسـتاذنـا المـجــذوب، عليه رحمة الله ورضوانه، كثيراً ما يتندَّر باجتهاداته غير الموفقة! أضحكني بقفشته، وشكرني برقته، واعتذر لي بمرضه عن عدم حضوره. فقلت له، وأستغفر الله:
ــ "أنت لست مريضاً، هذا مجرد إرهاق ناتج عن متابعتك في الآونة الأخيرة لتشطيبات البيت".
وكان قد أكمل للتوِّ بناء بيته، وتهيَّأ مع أسرته الصغيرة للرحيل إليه. وقلت له، واستغفر الله:
ــ "يبدو أننا استمرأنا التَّمارض والتَّنقُّل من عنقريب لآخر! إنهض يا رجل، واذهب لعملك، ولا تقلق عطور والبنيَّات"!
سعل خفيفا، وقال لي بصوت أكثر وهناً:
ــ "أبداً والله يا كمال .. شاعر فعلاً بأني عيان، تعال يا خي نتونس شويَّة، عندي ليك خبر مفاجأة"!
تمنيت له الشِّفاء، ووعدته بزيارته مساء غدٍ الثلاثاء، ولو كنت أعلم الغيب لطرت إليه، في لحظتي تلك، طيراناً!

(4)
كان عبد الهادي، أو (هُدهُد) أو (كيكي) كما كنا ندلعه في أوقات الصفاء، وما كان أكثرها، قد أبدى، ذات يوم من سبعينات القرن الماضي، نظراً ناقداً بجرأة لأدب ولغة وأسلوبيَّة أستاذنا الجَّـليل عـبد الله الطـيب، شفاه الله وعافاه، مِمَّا عدَّه المرحوم طه الكد تطاولاً على مقام (الهرم الأكبر) وكان لا يحتمل فيه (هبشة الريشة)، فانبرى يشاغب عبد الهادي ويكدره، بالمقابل، على لغته الحداثيَّة، بمقالة نشرتها صحيفة (الأيام) وقتذاك، وحكى فيها أن (كيكي) كان قد اصطنع لنفسه في بعض طفولته ـ حيث كان آل الكد وآل دار صليح جيرانا أحباباً في واو وأم درمان ـ سيَّارة وهميَّة جعل مقودها (صينيَّة) الطعام، يخطفها من مطبخ والدته الحاجـة فاطمة بنت عبد الله، ينطلق بها، لا يلوي على شئ، وهو لا يني يقلد بحنجرته ولسانه صوت المحرِّك، متنقلاً بين تروسه المختلفات، وكذا صوت البوق (جين.. جين.. كع.. تريت.. تيت)، أو نحو ذلك! كان واضحاً أن طه، وقد كانت له، في الزَّجر النَّقدي، صولات وجولات، يرمي للقول بان لغة عبد الهادي، بل ولغة أدباء الحداثة على بكرة أبيهم، هي، من يومها، لغة الـ (جين.. كع.. تيت)، لا يستثني منا أحداً! وعندما قرأ عبد الهادي المقالة أطلق واحدة من ضحكاته تلك المجلجلات، حتى دمعت عيناه الوديعتان، وراح يروي لنا بمرح صخَّاب، وكأنه يحتفي بتبكيت طه له، أن والده المرحوم احمد أفندي صدِّيق دار صليح كان على علاقة صداقة حميمة مع والد كل من طه وخالد، المرحوم حسين افندي احمد عثمان (الكد)، وكلاهما خرِّيج الكليَّة القديمة، وقد عملا محاسبين بالحكومة، وتزاملا وتجاورا، بأسرتيهما، في مدينة واو، حيث أسَّسا معاً أوَّل مدرسة أوليَّة، وكانا يتبادلان بعض مؤلفات الفابيين البريطانيين Fabians، على غرار ما كان يفعل عموم الأبروفيين؛ وكان، حين يبعثه والده بكتاب إلى حسين أفندي، يضعه تحت إبطه، ويخطف الصِّينيَّة من المطبخ ليقصِّر مشواره إلى بيت آل الكد بسيارته تلك!
هكذا لم يفُت على هُدهُد الشَّفَّاف، رشيق المزاج، رقيق الحاشية، أن يلتقط ما في مقالة طه من طرافة الأدب، وما في مشاغبته من حسن الطويَّة، فيحسن الظن به، كونه كان ذا حسٍّ عال في الفكاهة، وذائقة رفيعة في الإخوانيَّات.
وشبيهة بهذه الطرفة الحكاية الأخرى التي رواها لي المرحوم خالد الكد، ضحى يوم شتائي، وكنا نجالس الحاجَّة فاطمة، برفقة هُدهُد، نحتسي قهوتها الظريفة في صحن دارها، قال يخاطبني وهو يغمز متخابثاً:
ــ "عارف يا كمال لغة الحداثة دي أحياناً بتسبب خسائر!
قلت:
ــ "كيف"؟!
قال:
ــ "أهو عندك هُدهُد دا مثلاً، مرَّة، وأنا ضابط في الجَّنوب، وكانت تجارة الحدود مزدهرة مع يوغندا وكينيا وزائير، رسَّل لي جواب، كلام الطير في الباقير، أتذكر منه: القطط العمياء تموت في مقاهي المدينة .. ومش عارف إيه! طبعاً قريت الجَّواب وختيتو. وبعد فترة جيت الخرطوم، فإذا بهُدهُد زعلان .. قال إيه؟! ما رسلت الفنيلة ليه؟! فنيلة شنو يا كيكي؟! قال: فنيلة الصقط! ومتين انت طلبت مني فنيلة صقط! قال لي: كييييييف؟! أنا ما رسلت ليك جواب؟! قلت ليهو: أوعى يكون ده بتاع القطط العمياء! قال: والقطط العمياء دي الكتلها في مقاهي المدينة شنو غير الصقط"؟!
وانفجرنا أجمعنا، بما فينا الحاجَّة فاطمة عليها رحمة الله، بضحك صخَّاب، وكان أكثرنا مرحاً كيكي نفسه.

(5)
وكان يحبُّ كثيراً شوقي عزّ الدِّين، ومبارك بشير، ومحجوب شريف، ومحجوب عبَّاس، والطيِّب محمَّد الطيِّب، وعلي عبد القيُّوم، وعيسى الحلو، وعبد القدُّوس، وشابو، وابو ذكرى، وود المكِّي، والياس، وحردلو، وعركي، وكابلي، ووردي، والدُّوش، وود الرَّيَّح، وعلي المك، وهشـام الفـيل، ومحمــود تمــيم، وجعفـر ميرغـني، وعـبد الله علي إبراهيم، وكمال بخيت، وطلحة الشَّفيع، وأولاد الحلة: فريد الطيب وأشقَّاءه، والدِّحيش الذي تزوج بشقيقته الصغرى ثريا، فقدَّر الله أن تصبح، خلال أيام المأتم، جدَّة لطفل جميل أسموه عبد الهادي، وسوف نناديه أيضاً، إن مدَّ الله في أيامنا، (هُدهُد) و(كيكي).
أما مهدي بشرى فقد كان خدن روحه، ومن أحب الناس إلى نفسه، ما اجتمعنا في أيِّما مكان إلا وانخرطا في مشاغبات ومكايدات تكاد لا تنتهي، فإن لم يفعلا دققنا بينهما عطر منشم ليفعلا! قال لنا هُدهُد مرَّة: "إنتو قايلين مهدي ده بقى أديب كيف؟ دخل الجامعة فوجدنا أدباء فأصبح أديباً معنا! وكان حبل المودة موصولاً، أيضاً، بينه وبين صديقنا الدِّبلوماسي اللامع الأمين بشرى، بهار المجالس، وريحانة الأنس، وشقيق مهدي الأكبر، وكذا بينه وبين أحبة في الخارجية سعدنا بمعرفتهم في رحاب كرمه الفياض، وفي رأسهم تلك الكوكبة النادرة التي عجلت بالرحـيل ولمـا تبلـغ، بعـد، مُعـترك المنايا: يوســف مخــتار وعبد الله جـبارة وعمـر شـونة وأخـيار كثر.

(6)
واعلم، فداك نفسي، أن فريق "الرَّبيع" كان خليطاً من أولاد بيت المال والسور والملازمين، وأن هُدهُد كان، في زمانه، هدَّافه السَّريع، المباغت، البارع في التَّسجيل من الضَّربات الرُّكنيَّة، وكان ذلك أمراً عجباً، يثير الخيال، ويشعل الحماس. فازوا، في تلك الأيَّام، بكأس رابطة القلعة دورتين متتاليتين بلا هزيمة أو حتَّى تعادل. وأحرز هُدهُد، وحده، أربعين هدفاً بوَّأته منصب هدَّاف الرَّابطة. وبذكر ذلك، ومثله، سار المخضرمون من منظمي ومؤرخي الروابط والدافوري في البقعة المباركة إلى يوم النَّاس هذا. وأعجب كيف أنه لم يلعب بين المردة والأساطين، ولماذا لم تكتمل إجراءات تسجيله، وقد بدأت بالفعل، لـ "النيل" أو "الزهرة"، بل وأعجب كيف شغلنا عن سؤاله الأنسُ بـ "الشِّعر"، و"الفونج"، و"اتِّحاد الكتَّاب"، وأصل "التُّم تُم"!

(7)
أما شيخنا وحبيبنا الرَّاحل محمد المهدي المجذوب فقد وضع عبد الهادي في بؤبؤ عينيه، بادله مودة عميقة رائقة، وأجازه على مراقي المجد يوم أسماه "صاحب الإمارة والسِّفارة"، كناية عن حذقه الأدب والدِّبلوماسيَّة معاً، وصدق، فلعبد الهادي حين يجدُّ الجِدُّ، مجالدات مشهودة مع أمَّهات المراجع، ومخاضات غير منكورة في بطون الخزائن الجِّياد؛ بحَّاثة، كان، بصبر أيوب، وعِثَّة كتب bookworm، على قول الفرنجة، وناقداً صيرفيَّاً نبيهاً، ومدققاً مبدعاً، سواء تمكَّث أو لمح.
كان عبد الهادي من سنخ أولئك (المبدعين التلامذة) الذين لم نعد نرى نظائر لهم الآن! أجرى حفريَّاته في (أصول الشِّعر السُّوداني)، وهو لمَّا يزل، بعد، طالباً بكليَّة الآداب بجامعة الخرطوم. ثم تواتر رفده للمكتبة السُّودانيَّة (نقوشاً على قبر الخليل)، وتأمُّلات في عناصر الوحدة والتنوُّع في ثقافات (الحزام السُّوداني)، وغير ذلك مئات المقالات والبحوث المتفرقة. وكانت له انتباهته السَّديدة لخطورة جهازي الراديو والتلفزيون، وقدرتهما الفذَّة على مدِّ جسور تواصل لا مثيل لها بين المثقف المنتج وبين الجمهور، في بلد تتفشَّى فيه الأميَّة، فنثر من خلالهما إبداعاته، وأجاد. ولا تزال ثمَّة مخطوطات تنتظر همَّة الناشرين مِمَّا أثمر على أيَّام سفارته في (بانقي) عاصمة أفريقيا الوسطى.
وكانت لعبد الهادي بصمة عميقة حيثما حلَّ، فإليه يعود الفضل في إتاحة الفرصة للموهوبين من الموسيقيين والمسرحيين للتأهيل في المعهد العالي، وقد كان من مؤسِّسيه الأوائل، حيث استبعد اقتصار القبول فيه على نتائج الشهادة السُّودانيَّة. وزاملته في اللجنة التَّنفيذيَّة لاتِّحاد الكتَّاب، أوان ميلاده الأوَّل، حين كان أميناً مساعداً لشئونه الخارجيَّة، فأزهرت على يديه علائق لنا مع اتِّحادات الكتَّاب والأدباء في اليمن، والجزائر، وتونس، وفلسطين، وسوريا، ولبنان، والإمارات، وموريتانيا، والاتحاد السوفيتي، وارتفع لنا ذكر في أروقة رابطة كتاب آسيا وأفريقيا، كما أسهمنا في تأسيس اتِّحاد الكتَّاب الأفارقة، بل ودرجنا في نسيج المنظمات غير الحكوميَّة NGOs المعتمدة تحت مظلة الأمم المتَّحدة.

(8)
في الواحدة إلا خمس دقائق بعد ظهر الثلاثاء رنَّ جرس الهاتف في مكتبي. أبلغتني عبير بأن كمال بخيت على الطرف الآخر. رفعت السَّماعة. ثانيتان .. وسقطت من يدي. صرخت .. ركضتُ .. تعثَّرت على الدَّرج، بضع دقائق أخرى وإذا بي جالس إليه. مسجَّى، كان، على عنقريبه داخل صالونه المغلق. مغطى بثوبه الخفيف. كشفت وجهه. نفس الهدوء، نفس الوسامة الملوكيَّة، نفس الإهاب السَّمح، حتى لقد بدا، للوهلة الأولى، مستغرقاً في سبات ثقيل. لكن ولولات الفجيعة في الخارج ما فتئت تخترق جمجمتي، تفتتها، وتردُّني لإحساس عظيم بالفقد يرسب في أعماقي، يسحقني، ويمحقني، ولا ينفكُّ يدوي دويَّاً هائلاً بأن عالماً بأكمله ينهار، في تلك اللحظات، ويتداعى أشلاء متناثرة.

(9)
اللهمَّ إنَّا لا نزكِّي عبد الهادي لديك، ولكنَّا نشهد، فحسب، بأنه كان من أنفع النَّاس للنَّاس، فقد كان من أحدِّهم ذكاء، وأوسعهم معرفة، وأغزرهم علماً، وأطرفهم إبداعاً، وأوفرهم إنتاجاً، وأعفِّهم لساناً، وأزكاهم فؤاداً، وأطيبهم معشراً، وأصدقهم لهجة، وأقلهم خلافاً، وأندرهم نفوراً، وأكثرهم كرماً، وأعطرهم سيرة، وأنقاهم سريرة، ونشهد، وقد أضحى يا ربُّ في رحابك، بأنه كان ليِّن العريكة في شمم، ميمون النقيبة في إباء، وكان حمولاً للنازلات، صبوراً على المكاره، عُركة للأذى بجنبه، أخا أخوان، تهفو نفسه إلى المعالي، وتنهد للمكرمات، وتعفُّ عن الدَّنايا، وتتجافى عن الرذائل. ونشهد اللهم، والدِّين المعاملة، بأن أفئدة العارفين فضله قد هوت إليه، ولطالما شرحها منظره، وأبهجها مخبره، وراقها مظهره، وآنسها محضره، فهشَّت لإطلالته، واستوحشت من غيابه، فكيف بالغياب الذي لا عودة منه، ياربُّ، وبالفقد الذي لا أمل في لقاء بعده؟!
اللهم إن عبد الهادي لم يهُن إلا عليك، وإنا لنسالك، ونحن نتقلب في دخنة الحمأ المسنون، أن تغفر له، وتشمله برحمتك، وتلهمنا من بعده الصبر الجميل، يا ربُّ، وتلحقنا به في زمرة الصِّديقين والشُّهداء وحسن أولئك رفيقاً، إنا لله وإنا إليه راجعون.



كمال الجزولي
[email protected]


الخرطوم بحري، يونيو 2001م
***





تعليقات 2 | إهداء 0 | زيارات 2930

خدمات المحتوى


التعليقات
#691106 [جعفر عبد المطلب]
3.00/5 (4 صوت)

06-08-2013 05:48 PM
تربت يداك أيها الكاتب المبدع ، أعذرنى يا صديقى فلست أنا بكاتب مثلك حتى أوفى عبد الهادى حقه ، لقد " بردت بطنى " كما يقول أهلنا فى السودان تعبيرا عن شدة المسرة والإنبساط .مكتوبك الرصين هذا " هبش " قاع الذاكرة حيث تختبىء ذكريات وذكريات عن ذلك الإنسان الراقى والشفيف عبد الهادى الصديق .سبقنى الى باريس ،ليحصل على دبلوم اللغة الفرنسية للدبلوماسيين ، جئت أنا فى منحة مبعوثاً ضمن حزمة بروتوكول الإصلاح الإداري مع الحكومة الفرنسية . من حسن حظنا كان الفارس صلاح أحمد إبراهيم والأديب الكبير الطيب صالح والشاعر الدبلوماسى عمر عبد الماجد والأديب عبد الواحد عبد الله وكان الراحل يوسف مختار سفيرنا فى باريس . تأمل أن تمضى سنوات البعثة الستة فى رحاب هؤلاء العمالقة ، تتوطد علاقتك بهم وتتجذر صداقتك معهم . ذات نهاروأنا خارج من محطة قطار الأنفاق فى الحى اللاتينى فى طريقى الى الجامعة، كان اليوم سبتا ، فاذا بعبد الهادي ينادينى بصوته ذاك الذت تعرفه، دنوت فاذابصلاح بجواره .جلسنا نحتسى القهوة وما تيسر.. حتى حل فينا المساء .قلت لعبد الهادي هذا يوم لا ينسى ، ما اكثر لحظاتنا وأمسياتنا التى لا تنسى فى حضرتهم .ثم إنقطع بيننا الإتصال سنوات عديدات .فجاة كنت أجلس فى مغلسة للسيارات فى السجانة يملكها سقيقى ، فاذا بعبد الهادى فى جلباب أبيض وطاقية ، ليس ذلك عبد الهادي المهندم الأنيق الوسيم ! أخذنى فى حضنه فى حرارة وفرح قائلا طبعا ما عرفتنى ! .قلت له مازحا: أين تلك الأناقة والوسامة يارجل ! قال لى " هل بقيت تاجر أم ماذا لماذاإذن انت هنا ! قدمته لأخى وطلبو له غسيلا خاصا لسيارته وأيضا خدمات الزيوت ... الخ .إنتحينا جانبا وحدثنى كيف أحيل الى الصالح العام عندما كان سفيرا فى الكمرون . فقد كان ذلك بائنا ، حيث لم يعد جسمه وافرا كما ذكرت ياكمال ولم يأبه بأناقة أو هندام ! رحمه الله بقدر نقوشه على قبر الخليل وحفرياته فى أصول الشعر السودانى .


ردود على جعفر عبد المطلب
[ادريس] 06-09-2013 11:23 PM
الله يرحمه ويحسن اليه.. أما قولك (ما تيسر) فذكرني بمحاكمة المرحوم عبدالخالق محجوب حين سأله القاضي: هل تشرب الويسكي؟ فقال: ما تيسر..


#691045 [أبوهاشم]
1.00/5 (1 صوت)

06-08-2013 04:26 PM
يعصرني ألم حزنك تنعيك نفسك


ردود على أبوهاشم
[أبوهاشم] 06-08-2013 08:13 PM
يعصرني ألم حزنك لنعيك نفسك


كمال الجزولي
كمال الجزولي

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة