المقالات
السياسة
خارج الأقواس
خارج الأقواس
06-25-2013 02:47 AM


حين كنا صغارا بحجم البراءة، كنا نفترش كومة من القش تحت صفصافة عجوز قرب النهر، ليخرج كل واحد منا ما حواه جيبه الصغير من قصاصات معرفة، وتبدأ جلسات حوارنا الطفولي بقال زيد أو روى عمرو. فإذا اختلفنا حول فكرة واحتدم بيننا النقاش، فتشنا في دفاتر ذاكراتنا بحثا عن بيت شعر أو قول مأثور يكفينا مئونة التبرير أو التفسير. ولم نكن نرى في ذكر أقوال السابقين عيبا، ولم نعتبر الاستشهاد بأقوالهم أنشوطة تغلف عجزنا الطفولي عن التفكير. كنا نختلف ونحتد ونتصايح، لكن أحدا منا لم يكن يسب صاحبه أو يسفهه.
وكبرنا، فلم نعد نجلس تحت صفصافتنا الحزينة كما كنا نفعل في القديم رغم أنها لا تزل واقفة إلى جوار النهر كخصلة كثة فوق جبينه الأغر حتى اليوم. صحيح أن النهر لم يعد يتدفق كشلال، ولم تعد أسماكه ترفع أفواهها الصغيرة بعد كل ظهيرة فوق صفحته الرمادية، وصحيح أن الصفصافة صارت مخنوقة بقوالب الأسمنت والقرميد، إلا أنها لا تزال هناك شاهدة على ذكرياتنا كوثائقي أمين.
وكبرنا وكبرت سراويلنا، لكن جيوبها الصغيرة لم تعد تحمل قصاصات ورق، فقد أن احتلت قوالب التكنولوجيا المعقدة أمعاءها المنتفخة. ولم تعد ذاكراتنا البليدة تسعفنا بقول مأثور أو حكمة أو مثل لأننا صرنا ننظر إلى ما بين علامات التنصيص بكثير من الشك وقليل من الخجل. ولم تعد الأسماء الكبيرة تغرينا بالصمت حين تذيل قول أحدنا. صرنا نكره الاقتباس ونتمرد على النص ولا نرقب في كاتب رأيا ولا مكانة.
ربما أنضجتنا التجربة أكثر مما ينبغي وأسرع مما ينبغي، فظننا أننا أشعر من المتنبي وأبلغ من سحبان بن وائل وأفقه من مالك، رغم أننا لا نمتلك حقيقة من حطام الفكر إلا ما تتناقله الصحف الصفراء ومواقع التواصل المشبوهة. لم تعد الكلمات بين الأقواس ذات قدسية في حواراتنا لأن الرأي في بلادنا صار حقيقة يعاقب منكرها بالتسفيه والتخوين والعمالة. يكفيك كي تكسب حوارا أن ترفع حاجبيك إلى السماء وتضم راحتيك حول منخارك تأففا أو تنتظر حتى ينتهي شريكك في الحوار من قوله ثم تطلق ضحكة مكتومة أو تنظر في عينيه ببلاهة ثم تدير وجهك.
لم يعد الرجوع إلى الأقواس مزية تزيد من رصيد قائلها أو تضيف له نقاطا في خاتمة حوار. فكثير من الناس لا ينظرون إلى فواصل الحوار المقلوبة إلا بشفة مزمومة أو حاجبين مقلوبين لأن الفاصلة في عرف الخارجين على الأقواس لغم تاريخي يعيدنا إلى القرون الوسطى ويحيل الواحد منا إلى إنسان غاب، لهذا تراهم يقاطعون ما بين الأقواس بانفعال شديد وكأن محاورهم قد ارتكب إثما محرما أو خرج على شريعة الحوار.
العودة إلى الأقواس مطلب مشروع وملح بعد انفلات فكري وعقائدي وقيمي غير مسبوق لم تشهد له البلاد على مر الدهور مثيلا. فالأقواس حاضنة حضارات وصانعة هوية، والمتمردون على أقواسهم خارجون على جلودهم وبصمات أصابعهم. صحيح أن بعض المنتمين إلى التراث لاسيما الديني قد أساءوا إليه من حيث أرادوا أن يحسنوا، وصحيح أنهم حشروا النصوص في غير مواضعها، ووضعوا الاستشهادات في غير فواصلها، وصحيح أنهم نفروا الناس من تراث لم يفقهوه وحرفوا النصوص طلبا لكسب حوارات هزيلة وتحقيق مكاسب مؤقتة، إلا أن هذا لا يعد مبررا للخروج التام من جلود الوطنية والعداء غير المبرر لنصوص الشرع والشريعة.
مصيبتنا في بلاد ما بعد الثورات أننا لا نرى إلا بعين واحدة، ولا يُسيرنا فكر أو معتقد، بل نسير حيث سار بنا الهوى فنَضل ونُضل من حيث نظن أننا مهتدون. مصيبتنا أننا في بلاد ما بعد الثورات صرنا لا نفرق بين رواية وراوٍ أو بين مجتهد ونص. وكل اقتباساتنا شهادات غير موثقة لأناس لا نعرف إلا أسماءهم الافتراضية على مواقع التواصل يحاولون فرض واقعهم التخيلي على واقعنا الآيل للسقوط في وهاد التاريخ. لا خروج على أقواس إلا بفكر أيها الخارجون على أقواس لطالما حفظت وحدتهم ولمت شملهم وأشاعت الألفة بينهم. ليتنا لم نغادر صفصافة نهرنا العجوز، ولم نستبدل قصاصات أفكارنا بكتل من التكنولوجيا الخبيثة وليتنا لم نستبدل براءتنا القديمة بهز الأكتاف والضحكات المكتومة لكسب حوارات افتراضية لا يستمع إليها أحد.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 749

خدمات المحتوى


عبد الرازق أحمد الشاعر
عبد الرازق أحمد الشاعر

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة