المقالات
منوعات
البدايتان
البدايتان
06-29-2013 03:26 AM



نهض.. خرج .. مضى.. عاد.. دخل.. جلس.. وقف.. تقدم.. تراجع… تسمر.. تزحزح.. إلتفت.. دار حول طاولة المكتب الصغير بمقعدها الخشبي العاري من أي حاشية تكسر حدة خشونته.. أسند يديه على قوائمه ثم لم يلبث أن استدار مولياً ظهره لمقدمة طاولة المكتب الصغيرة كأنه يتهيب المواجهة.!!؟...
وريقات بيضاء تتناثر منبسطة على السطح المتصلب.. كان يرى بعيون ظهره قلم الحبر الأزرق يواري سنانه المشرعة خلف ثنايا الوريقات البيضاء كأنه إسقاط مريع لدخيلة صاحبه..!!؟...
بغتة يكور قبضته ، يطلقها في فضاء الغرفة الضيقة مفجراً بالون الغضب الحبيس لا يجرؤ على معاودة التجربة.. فشل التجربة رهين بإفراغها.. إنشودة الرياح الجنوبية. أغنية ماتت في شفاه الزمن..!!؟... والمنشد القديم إبتلع صوته.. وأقعى حزيناً في وجه الرياح الشمالية.. كادت الوريقات البيضاء أن تتطاير وتفلت عبر النافذة من سطوة المداد الأزرق..!!؟... ينحسر ظل الغضب !... متقلصاً.. ويداه تلتقطان الوريقات المتطايرة.. يجمع شتات نفسه ، ويجلس متأملاً المغني الحزين.. وجيوش من السواد الأعظم تصم آذانها عن صدى شجوه المحرض. همس لنفسه:-
- هذه لوحة أولى.
أصابعه النحيلة تعتدي على فضاء اللوحة منشبة أظافرها نهشاً وتمزيقاً---
- هذه ليست البداية المأمولة...
يسقط رأسه على سطح الطاولة طارقاً
مداخل أخرى.. البحر أفرغ جوفه فأحيل الصائدون على التقاعد.. على حين غرة إقتحم صوت أجش سربال العزلة. متعدياً حدود الآخر
- أين عبد الصمد؟
- عبد الصمد ليس هنا.
- كيف لا يكون هنا!
- هكذا.
- إذن من أنت؟
- أنا لست عبد الصمد
- أين عبد الصمد؟
- عبد الصمد ليس هنا..!!؟...
* * *

كان السطر الذي خطه على صدر الورقة الثانية ليتجسد بداية لمشروع عمله القادم قد أغرقه البحر الأجوف.. فمد شباكه للإيقاع بفكرة ضالة.. الضلال خروج عن المألوف وحسان كان شغوفاً بكسر حدة الإعتدال.. ليس تطرفاً ولكن.. قلب شفتيه امتعاضاً:
- هذا ابتذال.!!؟...
ثم أردف:
- وإلغاء لفكر الآخر.
كان جسد الوريقة القتيلة يتجيف مرتمياً بين سابقاتها في إهمال.. بينما أصابعه لا تكف عن البحث.. في الخارج إنهمر المطر.. صوته أنعش الذاكرة فتداعى مخزونها متواتراً في انتظام.. كانت سانحة طيبة لاقتناص البداية.. المطر ينهمر إنهماراً.. بينما (حسان) يقرع الباب الحديد بعنف.. صوت من الداخل يستمهله وحسان لا يكف عن القرع المتلاحق.
وتوقف القلم كالثور الحرون ولم يخط حرفاً.. أعاد قراءة ما كتبه عدة مرات عله يجد منفذاً يخرج من خلاله إلى نقطة التقاء تربط هذه الجملة اليتيمة بأخرى لقيطة لكن عبثاً !!؟.. ظلت هكذا مقطوعة وعصية الوصل.. !!؟..ترك كل شيء وانصرف إلى أمر آخر يشغله.. أنزل فازات الأزاهير من النافذة وأمطرها بقطرات ماء.. ثم أخذ في اهتمام يصلح من إعوجاج سوق نبات الظل بربطها بخيوط أعدت خصيصاً لذلك
ثمة ومضة إجترحت خاطره المنشغل برعاية الأزاهير ونبات الظل فأخذته أخذاً إلى سحر المداد الأزرق وألق بياض القرطاس !!؟...
مرة أخرى في مواجهة البداية الزئبقية.. النهر خلف المنزل.. لا.. المنزل يرتمي في استرخاء بين أحضان ضفاف النهر.. كان حسان يحترف الصيد ... حسان لم يكن صائداً حاذقاً.. الأسماك الصغيرة كانت تنزلق في نزق من بين ثقوب شباكه المتسعة.. لكنه لا يكف عن تكرار المحاولة المحكومة بالإخفاق !!؟... الحتمي.. ينحسر ظل الضحى.. وتتعامد الشمس في كبد السماء.. ثم لا يلبث قرصه الملتهب الآخذ في الانطفاء أن يسقط خلف الأفق وحسان لا يزال قابعاً هناك في انتظار الأسماك الكبيرة.
- هل تجرؤ الأسماك الكبيرة على الإفلات من ثقوب شباكه المتسعة؟!!...
- الإجابة قد ترسم طريقاً مختلفاً يعبره حسان.. وربما لا يجسر على عبوره.. وبذلك مجدداً تتسرب من بين أصابعه خيوط البداية.. لعل عودة حسان إلى منزله خائباً.. تطرح سؤالاً يفقد القدرة على إمكانية خلق شخوص ثانوية تحاور حساناً وتتجلى من خلالها مواقفه وتتضح رؤيته.. إذن ليبقى حسان منتظراً وآملاً في صيد سمين.. حتى يقتحم عزلته أحد قدامى الصائدين ليدور بينهما حوار متقطع .. حرفة الصيد والقدرة الهائلة على الصبر التي ينبغي أن يتسم بها الصائد وموقف حسان حيال هذه النصائح الصادرة عن تجربة وخبرة عميقتين !!؟....
هل يجرؤ حسان على إهمال هذه النصائح؟!!...
هذه مسألة تتوقف عليها قدرة حسان على الإنفلات من قبضة الإرث الصارم الذي خلفه قدامى الصائدين..!!؟...
إنتزع حقويه إنتزاعاً من سطح المقعد الخشبي الخالي من الحشايا...
وأخذ يدور حول طاولة المكتب الصغير دورات متواترة.. وعيناه لا تكفان عن التحديق نحو الوريقات المتناثرة هنا وهناك.. كلا البدايتين.. تظلان مبتدأ بلا خبر !!؟...
إنسحب مهزوماً منتحياً ركناً قصياً.. يتأمل شخصية حسان... ليس نسيج وحده.. إنه واحد من السواد الأعظم من الصائدين.. ربما يكون صورة مماثلة لأحد أسلافه الغابرين !!؟...
بغتة وجد نفسه يأخذ بتلابيب حسان ويجره قسراً إلى ركنه القصي أنت فعل أحدثته أنا.. فما بالك تتأبى علي؟.. تبدو مخلوقاً آخر.. إنك ليس هو.. نسيجك مختلف كنت أريدك حساناً متمرداً ولكنك تمردت على إرادتي وصرت خانعاً أمام النهر وفي معية الآخرين.. فكيف تكون متمرداً وخانعاً في ذات الوقت؟.. كيف يستوي التمرد مع الخنوع؟.. لعلي أنا الأضعف.. لست أنت..!!؟...
أفلت تلابيبه من بين قبضتيه المتشنجتين وحاول أن ينصرف إلى أمر آخر يباعد بينه وبين عالم حسان.. كان يعد لنفسه قهوة المساء التي اعتاد على تناولها في مثل هذا الوقت إلا أن علبة البن كانت خاوية.. الخواء إلتصق بحسان أيضاً.. كيف لي أن أجعله فاعلاً؟.. بذرة الشر التي زرعتها بين أحشائه.. يبدو أنها لم تثمر شراً !!؟...
تبدى له حسان من خلف أسطر البداية الثانية قدرياً لا يقدر على فض شفرة الآتي..!!؟...
تملكه اليأس للحظة.. لكنه تذكر أسطر البداية الأولى.. فاندست أصابعه بين قصاصات الأوراق المبعثرة حول جوانب سطح طاولة المكتب بحثاً وتنقيباً عن البداية المفقودة.. تنفس الصعداء وأنامله تلامس مفرداتها المتباعدة ذات الجمل القصيرة المبدوءة بأفعال مضارعة صارخة.. ينهمر.. يقرع.. يستمهل.. لا يكف.. وبعضها مقرون بالعنف والتلاحق.. (لعلها البداية الأصوب.. لكنها تتأبى على الوصل في زئبقية متناهية فكيف النفاذ؟)
مفتوناً بصفة المراوغة.. ظل يقاوم التيار المعاكس في تشبث لا يضاهيه شوقه لإصال البداية الثانية وصلاً لا ينقطع إلا عند الخاتمة...
جلس على السطح الخشبي الخالي من الحشايا مشدود المتن.. وقد شهر سنان البراع الأزرق محرضاً له في استعداء أمام بهارة النصاعة المنبثقة في ألق من صقالة البياض. !!...
ثمة تحد صارخ..
ثمة ضدية سافرة..
والبداية الثانية.. ملقاة على قارعة القرطاس مستباحة الجسد... مبتورة الأوصال.. فقط عليه أن ينحني ويلتقط إمتداداتها ليضرب بها عميقاً في دواخل حسان.. عله يسبر غوره ويمتلك ناصيته.. كان حفياً بهذه البداية.. آملاً في أن تكون بمثابة الإنشوطة التي تلتف حول عنق حسان لجره قسراً إلى بؤرة إشكالية الفاعلية .!!؟...
لكنه لا يلبث - قبل الإنزلاق في فعل الشروع- أن يكتشف أن استدراكه جاء متأخراً في حين أن نسيج حسان كان قد تم استكماله تماماً.. ولم يعد في حاجة إلى إعادة استنساخ وليس ثمة أمل في خروجه من دائرة المفعولية.!؟؟...
على حين غرة كف تماماً عن إحداث أي فعل بينما كانت الرياح تأخذ البداية الثانية أخذاً وتذهب بها بعيداً عبر النافذة.!!؟...


[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 842

خدمات المحتوى


فيصل مصطفى
فيصل مصطفى

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة