المقالات
السياسة
مقالات قديمة (ارشيف)
الجذور التاريخية لانتشار ظاهرة الهوس الديني (4)
الجذور التاريخية لانتشار ظاهرة الهوس الديني (4)
01-01-2011 05:28 PM

الجذور التاريخية لانتشار ظاهرة الهوس الديني (4)

د. محمد سعيد القدال
السوداني 21-10-2007
تناولنا في الحلقة السابقة الإخفاقات التي خيمت على البلاد العربية. ونواصل الحديث عن أثرها الاجتماعي. ما هي الطبقات الاجتماعية التي تأثرت أكثر من غيرها بتلك الإخفاقات؟ كانت تلك الأوضاع تنذر بتحولات عاصفة بالنسبة للبرجوازية الصغيرة وهي أكثر الطبقات انتشاراً في العالم الإسلامي، بالذات التي تقف على العتبة الأخيرة منها. فقد انهار طموحها للصعود إلى مصاف البرجوازية، واختفى الأمل الذي كم داعب خيالها. كما كان يمزقها الصراع المرير من أجل العيش. وأخذت قيمها تنهار، ويهددها السقوط إلى درجة الطبقة الدنيا، فأرّقها ذلك الكابوس. اختفى الحلم وحلّ مكانه ذلك الكابوس المرعب. فأمسكت الأزمة بخناقها. وفى ظروف الاهتزاز العنيف يلجأ الناس إلى جدار ثابت لا يتزحزح ليستندوا عليه. وفى مثل هذه الظروف تنشأ الحركات المتطرفة. حدث هذا في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية التي أعقبتها. واندفع الألمان خلف أفكار هتلر التي تنادى بأقصى درجات التعصب القومي بل الجنون القومي، الذي تمثل لهم في لحظات الضيق الشديد طوقاً للنجاة. ولم ينته الهوس النازي إلا بعد أن خلف وراءه خمسين مليون قتيل على سطح كوكبنا. والحركة النازية لا تختلف عن حركات الهوس الديني، إلا أن هذه قامت على التطرف الديني وتلك على التعصب القومي. وكلاهما يهدف إلى إقامة نظام شمولي.
وفى الوقت الذي كانت فيه حركة التحرر الوطني على أشدها والمشروع القومي مزدهراً والجماهير تشارك في الحلم، ظهر البترول في بعض الدول العربية التي أصبح فيها الحفاظ على تلك العروش واجباً مقدساً، ليس فقط من أجل الحكم، بل أيضا من أجل الثروة التي استبان الحكام آفاقها بعيدة المدى. ولكن حركة التحرر بشعاراتها المدوّية والمشاركة الجماهيرية، كانت تقض مضجعهم وتهدد عروشهم وتهدد الثروات التي يجلسون فوقها. فانبرى حكام البترول إلى محاربة تلك الأنظمة والطعن في الشعارات التي ترفعها. فامتشقت سلاح الدين، واتهمت تلك الأنظمة بالكفر، واتهمت القيادات الجديدة في مصر والجزائر وسوريا والعراق بالإلحاد والزندقة، بالرغم من أن تلك القيادات من الديمقراطيين الثوريين الذين لا يمكن وصفهم بأن لهم فلسفة في الحياة الإلحاد جزء لا ينفصل عنها. ويصل هذا الهجوم حد الإسفاف فيما ذهب إليه أحد أساتذة جامعة الملك عبد العزيز في كتاب له عن تفسير القرآن عندما قال إن المسلمين: "يبدأون أعمالهم وأقوالهم باسم الله الرحمن الرحيم، ... مخالفة للوثنيين الذين يبدأون أعمالهم بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات، أو باسم العزى، أو باسم الشعب، أو باسم هبل." ويظهر الخبث في وضعه "باسم الشعب" وسط أصنام الجاهلية ثم اعتبار الشعب صنما يعبده الناس. ولا شك أن العديد من الناس يذكرون ما قاله الشيخ الشعراوى من أنه صلى ركعتين شكرا لله عند هزيمة 1967 لأن النظام الناصري ملحد والصهاينة أهل كتاب. بينما يقول الشيخ محمد علي الصابوني في تفسيره باسم "صفوة التفاسير
"الجزء الثاني ص، 120" في شرح قوله تعالى "وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر، قال: "أي من هذه السبل طريق مائل عن الحق منحرف عنه، لا يوصل سالكه إلى الله وهو طريق لضلال، كاليهودية والنصرانية والمجوسية". وهو لا يختلف مع الشيخ الشعراوي، بل يخالف ما جاء في القرآن عن أصحاب الديانات السماوية. أخذت تلك الأنظمة تحمى نفسها بسيل جارف من الورق تلفظه كل ساعة آلات الطباعة التي لا تتوقف في بيروت. ولا شك أن الخطاب الديني السائد هو الذي أعطاهم السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم ويحاربون به خصومهم.
ولم يقف حكام البترول على تكريس خطاب ديني يحميهم، بل أخذوا يدعمون بعض الحركات المعادية للأنظمة القومية. فأغدقوا عليها المال، وفتحوا لهم حسابات في بنوك سويسرا، وابتكروا نظام البنوك الإسلامية التي زعموا أنها لا تتعامل بالربا وإنما بالمرابحة والمضاربة، وهي في الواقع مؤسسات طفيلية حتى النخاع. وجعلوا من بلادهم ملجأ للهاربين من بلادهم. أصبحت تلك الحركات مع الخطاب الديني النفطي هي الأدوات التي حاربت بها خصومها. ولكنها لم تكن أسلحة لها فعالية كبيرة كما حدث فيما بعد، بل ظلت في حالة كمون وبيات شتوي. وعندما اشتد ساعدها عضت اليد التي أحسنت إليها، تماما مثل ما فعل هتلر مع الرأسمالية التي موّلت حزبه حتى استلم السلطة ليحميهم من خطر التيار الاشتراكي الزاحف، فأصبح وبالاً عليهم وعلى العالم بأسره. وتماما مثلما فعلت حركات الهوس الديني المعاصرة مع إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأخرى التي مولتها ودعمتها.
وفى الوقت الذي كانت فيه الأوضاع تتأزم في البلاد العربية، كانت أموال البترول تتراكم. وبدأ الناس يتسللون لواذاً إلى بلاد النفط، ثم أصبح التسلل طوفاناً من الهجرة. فماذا وجد أولئك المهاجرون؟ وجدوا وضعاً سياسياً ربما أكثر قتامة من أوضاع بلادهم، ولكنهم وجدوا وفرة في الاستهلاك وشاهدوا مظاهر الصرف البذخي التفاخري في الوقت الذي يعيش فيه أهلوهم على أعتاب الفاقة. ووجدوا إرهاباً دينيا حيث يساق الناس بالسياط كالقطيع إلى المساجد. ووجدوا خطاباً دينياً يقوم أساساً على القشور وليس على جوهر الدين وذلك من أجل تكريس طغيان الأنظمة الحاكمة. هذا لا يعنى أن المهاجرين آمنوا بتلك الأفكار، ولكن الجو القاتم غلّفهم بأرديته السوداء. وأصبحوا يشكلون رصيداً للحركات الدينية الرجعية التي أخذت تنفث سمومها بينهم.
وبرز خطاب ديني له سمات معينة. أولها إضفاء القداسة على أقوال رجال الدين والمؤسسة الدينية. وهي المؤسسة التي تدعمها الأنظمة الحاكمة وتغذيها أموال البترول. وأصبح الحكام يلجأون إلى تلك المؤسسة لتضفي شرعية دينية على أفعالهم. وحتى عبد الناصر لجأ إلى الأزهر رغم رصيده الجماهيري، وعبر بذلك عن حاجة السلطة المكبوتة إلى الشرعية الدينية. وتحول الأزهر إلى مؤسسة حكومية. وغدا خطابها الديني يزعم وحده امتلاك الحقيقة ولا يقبل من الخلاف في الرأي إلا ما كان في الجزئيات والتفاصيل. ويمتلكون وحدهم حق تفسير النص ويعودون إليه معزولا من تاريخيته، وكأنهم لم يسمعوا قول الإمام علي بن أبى طالب: " القرآن خط مسطور بين دفتين لا ينطق، وإنما ينطق به الرجال". وما قصده الإمام علي أن الذي ينطق هو وعي الرجال، أي وعي العصر لأن الرجال يستمدون وعيهم من عصرهم.
_______________________





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 405

خدمات المحتوى


د. محمد سعيد القدال
د. محمد سعيد القدال

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة