المقالات
السياسة
ارشيف مقالات سياسية
ماذا بشأن الشرعية الدستورية بعد رحيل الجنوب؟ا
ماذا بشأن الشرعية الدستورية بعد رحيل الجنوب؟ا
01-23-2011 11:31 AM

رأي

ماذا بشأن الشرعية الدستورية بعد رحيل الجنوب؟ ..

خليفة السمري - المحامي

في كل حقب تاريخ البشرية، كان الناس ينظرون بعين الاحترام إلى أسس شرعية الحكم الذي عاصروه، فكانت في البدء عبادة الملوك التي تماهي فيها الإله مع شخص الملك، ثم تطور الأمر إلى شرعية الحق الإلهي أو التفويض الإلهي في مباشرة السلطة، إلى أن انتهى الأمر بالبشرية إلى شرعية الديمقراطية المنقوصة على الطريقة الإغريقية، ثم جاء الإسلام ونقلنا إلى شرعية الشورى المقيدة بضوابط النص الشرعي ،التي سرعان ما تم الالتفاف عليها بعد حكم الراشدين رضوان الله عليهم، لتحل محلها شرعية الغلبة والتغلب التبريرية، ثم بعد ذلك شهد الغرب في عصر الأنوار نظريات العقد الاجتماعي كأساس لمشروعية الحكم ،وهذه المشروعيات السياسية للحكم اكتنفتها خلال تاريخها الطويل تداخلات وتعرجات كثيرة ،إلى أن نضج الإنسان وبلغ بالعلم والتجريب مبلغاً أسس لفسلفة النظم الديمقراطية الحديثة التي تقوم على حفظ توازنات القوة، والتلاقي عند القواسم المشتركة التي يتقاطع عندها الجميع،وتتجسد هذه القواسم في مبادئ من مثل :أن الإنسان ولد حراً ويجب أن يبقى حراً، وأن الوطن القومي هو أب الجميع، وأن الحكم يجب ألا يكون إلا عن تراضٍ يعبر عنه العقد الاجتماعي الذي يرعى مصالح كل الشعب، وما إلي ذلك من قيم العدالة وصيانة الحقوق ، وأصبح من المتفق عليه بين كل الباحثين في علم القانون وشؤون الحكم أنه إذا غابت هذه الغايات، وتوارت هذه الأهداف، فإنه لن يبقى من فلسفة الديمقراطية إلا الهياكل النخرة، والمؤسسات الزائفة التي لاتخدم سوى قضايا الأتوقراطية وأهداف النخبة الحاكمة.
أصوغ هذه التوطئة وأنا أشفق على أهل الحكم في السودان أن يتهددوا فلسفة ومبادئ الدستور الانتقالي لسنة 2005م،بعد رحيل أهل الجنوب، خاصةً المبادئ التي نصت عليها المادة (4) من الدستور المذكور،وكذلك وثيقة الحقوق التي تضمنها الباب الأول منه في المواد من (27) إلى (48) ،وهذه الوثيقة في اعتقادي هي درة الدستور الانتقالي وتاج رأسه النظري، لكن لمعانها وتجليها لا يكون إلا بإنزال نصوص الدستور إلى الواقع العملي، فإذا كان أغلب المحللون السياسيون ظلوا يعتقدون أن الواقع السياسي جعل من الحركة الشعبية الضامن الأساسي للحفاظ على وثيقة الحقوق السابق ذكرها ، ومع ذلك حصلت فيها تجاوزات كثيرة ، فإن خروج الحركة الشعبية من جوقة السياسة القومية للبلاد ، سيجعل الوثيقة المذكورة، بل نصوص الدستور جميعها في خطر في ظل واقع الأغلبية الميكانيكية لبرلمان ما بعد الاستفتاء، بل يجعلها عرضة لأن تقع بشأنها تجاوزات،أو حتى تعديلات، وهذا الفرض النظري احتمال وقوعه كبير، في غياب توازنات القوة المؤكد حدوثه في الحكومة والبرلمان برحيل الحركة جنوباً بعد الانفصال، وفي ذلك من الآثار السلبية على سير العمل في دولاب الدولة ما لا يخفى ، في ظل عدم وجود معارضة فاعلة داخل البرلمان، ورحم الله شيخنا الدكتور عبد الله العجلان ، فقد كنت كثيراً ما أسمعه يقول : إن أبا داود وابن حزم الأندلسي على الرغم من ظاهريتهما الخشنة إلا أنهما خدما قضية الشريعة والإسلام، فقد كانا عليهما رحمة الله بمثابة الكابح الذي منع عربة أهل الرأي والقياس من الانزلاق والغلو والتطرف في الارتكان للرأي، ومن هنا نقول: إن وجود المعارضة الفاعلة هو في الحقيقة ضرورة شرعية إسلامية قبل أن يكون ضرورة وضعية خلصت إليها البشرية بتجاربها وخبرتها الطويلة ، ودوننا في ذلك القول المأثور (والله لو رأينا فيك إعوجاجاً لقومناك بحد سيوفنا)،وهكذا يكون عمل المعارضة الجيدة ، أن تُقَوِّم ما أعوجَّ والتوى، وأن تُصَوِّب من تجاوز المدى وتورط في الخطأ المؤثر على مصالح العباد.
فإذا أخذنا كل هذا الذي ذكرناه في الحسبان ،فإن تطبيق المادة (226/10) من الدستور - والتي نصت على أنه (إذا جاءت نتيجة الاستفتاء حول تقرير المصير لصالح الانفصال فإن أبواب وفصول ومواد وفقرات وجداول هذا الدستور التي تنص على مؤسسات جنوب السودان وتمثيله وحقوقه والتزاماته تعتبر ملغاة) - يؤدي إلى وضعٍ دستوريٍ شاذ، فيما يتعلق بفاعلية توازنات القوى في البرلمان، فحزب المؤتمر الوطني الحاكم سيكون بوقوع الانفصال صاحب أغلبية في الهيئة التشريعية ليست آلية فحسب ،وإنما (سوبر أغلبية) تمكنه من الوفاء بمتطلبات المادة (224/1) من الدستور التي اشترطت لتعديل الدستور موافقة ثلاثة أرباع جميع الأعضاء لكلا مجلسي الهيئة التشريعية (المجلس الوطني ومجلس الولايات)، ومن ثم تستطيع الهيئة التشريعية - من الناحية النظرية على الأقل - تعديل كافة نصوص الدستور بما في ذلك تغيير المبادئ والتغول على وثيقة حقوق الإنسان (إن أرادت ذلك)، وفي نظري أن مثل هذا الوضع يعتبر شاذاً، ذلك أن توازنات القوى في المجلسين التي على أساسها قامت تلك الأدوات الميكانيكية اللازمة لتعديل الدستور تكون كفتها قد رجحت لمصلحة المؤتمر الوطني من غير أن يحصل على ذلك بتنافس انتخابي، ولا يجوز أن نفترض في هذا الصدد أن المقاعد الشاغرة في الهيئة التشريعية( برحيل الحركة الشعبية) يمكن أن تملأ بنوابٍ جدد وانتخابات جديدة، فتلك فرضية تجافي الواقع ومنطق الأشياء، فالدستور وقانون الانتخابات جعلا لكل ولاية ممثلين اثنين في مجلس الولايات، وبذهاب الجنوب سيذهب عشرون نائباً يمثلون الولايات الجنوبية العشر، فمن أين لنا بولاياتٍ عشرٍ جديدات ننتخب نواباً عنها للتمثيل في مجلس الولايات، وقل مثل ذلك بشأن المجلس الوطني الذي تم تحديد الدوائر الجغرافية لانتخاب عضويته على أساس التناسب السكاني الذي لا شك سنفقد منه ما يقارب الثمانية ملايين بذهاب الجنوب، فضلاً عن أنه لا يصح تضخيم عدد عضوية المجلس الوطني لجمهورية السودان (الشمالية) بعد ذهاب الجنوب بانتخاب نواب جدد، وتحميل الميزانية مزيداً من الانفاق،في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور أصلا، وبفرضية اننا رغبنا في هذا التضخيم فأين هي الدوائر التي يمكن إجراء انتخابات فيها في الشمال لإكمال العدد اللازم لحفظ توزانات الهيئة التشريعية وإعطاء مفهوم الأغلبية النيابية فيها صبغته الشرعية؟ لذلك فإنه على الرغم من أن الدستور الانتقالي وضع تحوطات فرضية في المادة (69) (للدوشة) الدستورية التي قد يخلفها الانفصال، فإن حالة الارتباك الدستورية تبقى برحيل الجنوب قائمة في البلاد ، ذلك أن عمومية نص المادة( 226/1) من الدستور التي أوجبت إلغاء (في حالة الانفصال) كل فصول الدستور والمؤسسات ذات العلاقة بالجنوب، لم تتحسب لا هي ولا بقية نصوص الدستور الأخرى لمعالجة العطب الدستوري الذي سيصيب الهيئة التشريعية برحيل الجنوب، وبما أن النظام الرئاسي يقوم في الأصل على ثلاثة أعمدة ( برلمان/ سلطة تنفيذية/ قضاء مستقل) ولا تتماهي فيه الحكومة مع البرلمان على النحو الذي عهدناه في النظام البرلماني، فإن الخلل في إحدى العمد المذكورة ? وهو في حالتنا هذه الهيئة التشريعية- حتماً سيؤثر على بقية المنظومة، ويفتح الباب أمام جدل دستوري قد تعجز حتى المحكمة الدستورية بأدواتها المتواضعة عن حسمه بصورة تنال احترام وتقدير الجميع،هذا إذا علمنا أن المحكمة الدستورية نفسها ستصاب بشللٍ تام حال كون أن نص المادة (226/10) من الدستور يلغي عضوية الجنوبيين فيها ضرورةً ويلزمهم بالرحيل جنوباً، ولا سبيل لإصلاح هذا الخلل والنقص في عضوية المحكمة الدستورية في ظل الوضع الدستوري المترتب عن ما بعد الانفصال ،ذلك أن المادة 121 من الدستور نصت في فقرتها الأولى على أن تعيين قضاة المحكمة الدستورية يتم بناءً على توصية من المفوضية القومية للخدمات القضائية بموافقة ثلثي جميع الممثلين لمجلس الولايات ،ونصت في فقرتها الثانية على أن يمثل الجنوب تمثيلاً كافياً في المحكمة الدستورية، وجاءت المادة (4) من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م مؤكدةً لذلك فنصت في فقرتها (أ)على أن : تتكون المحكمة الدستورية من تسعة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية بناءً على توصية المفوضية القومية للخدمة القضائية وموافقة ثلثي جميع الممثلين في مجلس الولايات،فإذا علمنا أن المفوضية القومية نفسها ستتأثر سلبياً برحيل أهل الجنوب ، وإذا علمنا أن عبارة (ثلثي جميع الممثلين في مجلس الولايات) ذهبت نية المشرع فيها إلى أنها تعني ولايات السودان الموحد وعددها خمسة وعشرون ولاية، فإننا نكون أمام استحالة قانونية ودستورية فيما يتعلق باستكمال ما نقص من عضوية المحكمة الدستورية التي ينبغي أن ترعى الدستور وتقوم على أمر حفظه وصيانته. ولا يغير من حال هذا الوضع الشاذ ،أن النظام الرئاسي يخول رئيس الجمهورية الحق في تعديل وزارته وتشكيلها على النحو الذي يراه مناسباً كما يحاول البعض أن يهوِّن من الأمور، وخلاصة الموضوع أننا سنكون أمام علاقة جدلية بين تعديل القوانين اللازمة لإصلاح أو إكمال الأجهزة الدستورية للدولة من هيئات تشريعية ومفوضيات ومحاكم، وبين الآلية التي تعدل تلك القوانين وتجيزها (فأيهما الأول البيضة أم الدجاجة)،وسنكون أمام تناقض غريب في نوعه ، فتعديل القوانين يحتاج إلى برلمان يفترض أن الآلية الميكانيكية فيه توفرت بعد منافسة انتخابية حرة،وبرحيل أهل الجنوب فإن مثل هذه الآلية تنعدم تماماً حال كون من يتبقى من نواب الشمال يمثلون جزءًاً من مؤسسة البرلمان المنتخب وليست كل البرلمان فإذا ذهب بعضه فإنه بذلك يفقد وحدته التنافسية التي أعطته الشرعية في السابق،وفي ذات الوقت فإن إصلاح هذه الآلية وتوفيرها يحتاج هو الآخر إلى تعديل القوانين نفسها، ومعضلة هذه العلاقة الجدلية لن تحل في نظري إلا بتسوية سياسية تجنب البلاد مزيداً من التمزق والاختلاف، فإذا أبينا على أنفسنا ذلك، فلا بديل أمامنا سوى الإقصاء والرجوع بالبلاد القهقرى إلى المرسوم الدستوري (رقم واحد)، ولا أعتقد أن سياسياً عاقلاً عجمت عوده الأيام ، وصقلته التجارب وامتحنته صروف الظروف المحلية والإقليمية والدولية ، يمكن أن يخاطر بالإلقاء بنفسه في هذه الهلكة، ومن ثم فإن المؤتمر القومي الدستوري الجامع يبقى في نظري هو الطريق الآمن لبناء النظام الدستوري للبلاد وتجنيبها خطر الانزلاق في مزيدٍ من المآسي والأحزان، خاصةً وأن الحالة الاقتصادية لا تتحمل عراك ثيران جديد، في ظل الأوضاع المعيشية السيئة التي يكابد عنتها ومشاقها المواطن الغلبان، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

الصحافة





تعليقات 2 | إهداء 0 | زيارات 1288

خدمات المحتوى


التعليقات
#84267 [حوسة]
0.00/5 (0 صوت)

01-24-2011 10:18 PM
الشرعية الدستورية تكون انتهت صلاحيتها بانفصال الجنوب.


#83289 [موسى ]
0.00/5 (0 صوت)

01-23-2011 11:57 AM
تحليل وطرح موضوعي ..ورؤية ثاقبة .. لكن منو البقنع الكيزان ..


خليفة السمري - المحامي
خليفة السمري - المحامي

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة