كعب نـاعم
05-14-2014 10:12 AM

عندما استيقظ صباحاً ، لم يكن يعلم وجهة يقصدها ، كما كل يوم . على مهل ارتدى ملابسه و خرج من الغرفة التي تفتح على الصالة الواسعة . عندما خطا اولى خطواته خارجاً من الباب الخارجي ، استوقفه صف من نمل . أخذ يمتد من ذلك الباب قاطعاً الصالة في صف يكاد ان يكون مستقيماً . تابعه ، فاذا به يقوده إلى غرفة من غرف البيت المقفولة منذ زمن . تلك الغرفة التي نسى محتوياتها كما قد نسي من كان يشغلها . دفع الباب ، لم يكن يتوقع ان يجده مفتوحاً ، اندفع دون حتى أن يصدر صوتاً ، عندها اتاح الفرصة للنور من الصالة أن يعم الغرفة التي كانت مظلمة. في مواجهته على السرير الايمن رآها ، ترقد . انها امرأة . يرى ظهرها ، ممدة ، وجهها إلى الحائط و شعرها مسدل بعضه على ظهرها و بعضه على الفراش . كانت ترتدي ملابس للنوم من النوع ناعم القماش و اللون . لم يميز لون القميص و لكنه ميّز تلك البشرة صافية البياض ، كأن شمساً لم تلامسها في يوم . حتى كعبي قدميها تكاد الدماء تنضح منهما من النعومة و الصفاء . قرب سريرها على الأرض حذاء منزلي خفيف تتداخل الوانه بنفس نعومة الوان القميص . كان السرير الآخر خالياً و لكنه مرتب بعناية . في وسط الغرفة سجادة صغيرة يميل لونها للحمرة التي تحاكي لون الستارة . ذهب ناحية النافذة الوحيدة بالغرفة وجدها مغلقة . عندما استدار منها واجه دولاباً بضلفتين ، توجه إليه و فتحه ، كانت الملابس معلقة في الضلفة اليسرى و الضلفة اليمنى احتوت على ملابس مطبقة و مرتبة فوق بعضها البعض على عدد من الأرفف . كل الملابس تفوح منها رائحة ناعمة كصاحبتها ، علي ما يبدو ، التي ترقد على السرير .

كان يتحرك داخل الغرفة ، بلا دهشة ، كأنه يتوقع هذا ، أو كأنه كان يشاهد فيلماً شاهده من قبل . توجه ناحية المرأة الراقدة هناك . فكر أن يوقظها . تردد . تراجع ، جلس على طرف سريرها قرب قدميها الناعمتين ، كقدمي وليد . تلفت في الغرفة باحثاً عن هذا المشهد في ذاكرته ، أين شاهده من قبل . هنا تذكر صف النمل ، اين انقطع ، بحث عنه على الأرض . تابعه فإذا به ينتهي أسفل السرير الذي على يسار الغرفة . رفع الملاءة ، كانت هناك حقيبة سفرية سوداء . النمل مواصل صفه إلى داخل الحقيبة التي فتحها ليجد النمل قد تجمع في صندوق صغير به بقايا حلوى و بسكويت ، و باقي الحقيبة قد امتلأ باوراق و دفاتر مع بعض المحتويات الأخرى . بدأ يقلب فيها ، دفع أحد الدفاتر فإذا تحته ألبوم صور . حمله ، فتحه ، فواجه صورته هو نفسه في أولى الصفحات و كأنها قد التقطت له الآن ، في هذه اللحظة التي يرتدي فيها قميصه الباهت الواسع و طاقيته القماشية . لأول مرة منذ دخوله هذه الغرفة تنتابه الدهشة . لا شعورياً التفت ناحية تلك المرأة النائمة، التي تقلبت قليلاً . حمل الألبوم و جلس في نفس المكان ، على طرف السرير قرب الكعبين الناعمين . أخذ يقلب في صفحاته ، لم تكن هناك صورة إلا و هو فيها صغيراً أو كبيراً . ظهر في كل الأعمار ، في البيت و الشارع و أماكن كثيرة ، تعّرف على بعضها و لم يتعرف على بعضها الآخر ، أحياناً وحده و أحياناً معه آخرون . هناك نساء كثيرات في عالم الصور ذاك . يحملنه و يلاعبنه صغيراً . أخريات يقفن معه شاباً و في بعض الصور صغيرات يماثلنه في السن. التفت ناحية المرأة ، حاول أن يرى وجهها ليتعرف عليها ، علها واحدة منهن و لكن المرأة مولية وجهها للحائط تاركة شعرها الأسود الطويل يتحدث عنها . من تفاصيلها الراقدة هناك حاول أن يخمن من تكون من تلك الصور ، أخذ ينظر إليها و هو يقلب الصفحات ، ظنها مرة تلك التي تحمله كثيراً و هو صغير . و لكن ببياضها الصافي تشبه تلك التي تكررت معه و هو شاب يافع . رغم سمرة الصغيرة التي تلعب معه في بعضها إلا انه للحظات ظنها هي . و للحظات كثيرة اعتقد انها كلهن مجتمعات .

قلَب صفحات الألبوم بضجر . وقف و فتح الحقيبة و رمى به داخلها . ركلها بقدمه اليمنى لتعود إلى مكانها الأول . عاد و اغلق ضلفتي الدولاب . تأكد أن النافذة خلف الستارة الحمراء لا زالت مغلقة . عدل من وضعها و توجه نحو الباب . قبل أن يهم بالخروج رمى نظرة على المرأة الراقدة و كأنه بتلك النظرة عرف من تكون . توجه نحوها ، و وضع يده على كتفها . هزها ، تحركت على السرير . رفعت يدها اليمنى ، و هى

لا زالت مولية وجهها للحائط ، لترفع بها شعرها الطويل لأعلى . اتكأت على نفس اليد و هى تستدير ناحيته بهدوء . ببشرتها البيضاء و وجهها هاديء القسمات حملت قوامها الطويل مسدلة شعرها إلى الخلف . جلست في منتصف السرير و ظهرها على الحائط . كأنها كانت تنتظر أن يوقظها و يبعث في جسدها الحياة . نظرت إليه دون ان تبتسم . عندما همت بالكلام ، عندها فقط تذكر ، عرفها . رفع يده و كأنه يسكتها . لم تتكلم . و لكنه تذكر حتى أين رأى محتويات هذه الغرفة من قبل . تلفت دون وجهة . عاد لينظر إلى صف النمل . كان قد تقطع و بدا و كأنه قد تشتت . تبعه حتى الباب . و دون أن ينظر إليها مرة أخرى خرج من الغرفة و قفل الباب خلفه ، مانعاً الضوء من الغرفة . كانت أرض الصالة خالية تقريباً من النمل . توجه إلى الباب الخارجي الذي اغلقه خلفه أيضاً و خرج لا يعرف إلى أين ، كما كل يوم .





تعليقات 5 | إهداء 0 | زيارات 3315

خدمات المحتوى


التعليقات
#1004803 [هجو نصر]
2.56/5 (17 صوت)

05-15-2014 02:18 PM
هي قصة لا تشبه الا صاحبتها . لامكان لماركيز هنا استمتعت شخصيا بها كما استمتعت قبلا بقصيدة ود المكي (بعض الرحيق انا) دون ان اطالب بالايضاح . الابداع كالقيم العليا والايضاح يقتله كما قال نزار عن شقيق الابداع وهو الجب . شكرا للنسيم العليل الذي سقته لنا في هذه السموم اللافحة . هذا ما عنّ لي ولا يحتمل التعليق اكثر من ذلك


#1003666 [برعي]
2.56/5 (20 صوت)

05-14-2014 02:07 PM
فيها شبه من حكايات ماركيز في مائة عام من العزله ، اعتقدة بان المراة هي امه الميته من زمن ، وذهاب الكل وبقاءه وحيدا يعيش علي الاوهام والاحلام والزكريات .
النمل والغرفه القديمة والمراة البيضاء ذات الشعر الطويل ، وصوره مع نساء مختلفات في مراحل مختلفه مع اضافة البنت السمراء ، كلها من كتابات ماركيز في مائة عام من العزلة ، وفي اعتفادي فان المجتمع السوداني وما يحدث به الان يشبه الي حد كبير مجتمع كولومبيا الخمسينات والستينات في الدكتاتورية والعسكر والفساد والموت والفقر والجهل والمرض والالم والقهر والبؤس والضياع، مع وجود البيض والصفروالسمر والسود ، والاساطير والفنتازيا مع السحر والحلم ، كلها اجواء تشبه اجواء امريكا الجنوبية في حكاوي ماركيز وهي موجوده في السودان بكثره.
لك التحية ايتها الكاتبه ونتمي المزيد


#1003603 [waiting for godot]
2.56/5 (14 صوت)

05-14-2014 12:59 PM
أماني أبو سليم ، أنت مبدعة بحق.. فليحفظك الله.


#1003599 [جعفر النميري]
2.56/5 (15 صوت)

05-14-2014 12:55 PM
أتمنى لك مستقبلاً زاخراً للكتابة الصغيرة والكبيرة ، وقصتك جذّابة بالرغم إني لم أعرف من تكون تلك الناعمة النائمة !! اعذريني فقد عشت مع القصة ومتأكد تركتي نهايتها لمن يفهم ومعذرة لأني قرأتها وبطني مليانة ، وزمان كانت حبوبة بتقول لينا الزول البدين ما بفهم في الحصة (لما كنا نحضر لفسحة الفطور .. وكان وقتها الفطور سيد الوجبات ..


#1003593 [Amin]
2.56/5 (15 صوت)

05-14-2014 12:48 PM
ما دله على أهل بيته إلا دابة الأرض


الإهمال يدفع للجريمة


ردود على Amin
United States [شطة ابكر البرتاوى] 05-14-2014 01:55 PM
منكم نستفيد.......
كل ميسر لما خلق له.


أماني أبو سليم
أماني أبو سليم

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة