جداريات رمضانية (8)
06-27-2015 05:35 PM




مع توالي الأزمنة تتغير كثير من صور الأمس ليس على مستوى الذاكرة الإنسانية بل على صعيد الواقع في حد ذاته، بحيث تلبس الحياة صورا جديدا لم تكن قائمة من ذي قبل. قد يكون ذلك اسمه التطور أو التقدم وربما مسايرة للمتحرك الكوني والعالمي دون أدنى انتباه من المجتمع أو الإنسان، وما يحدث في العالم يؤثر على المجتمعات أين كانت حتى لو ظنت أنها بمعزل وبعيدة أو أنها قوية من حيث بنيانها التقاليدي أو قيمها المتوارثة.
وإذا كان رمضان فكرة دينية ومرتبطة بالعبادات والقيم الروحانية الإسلامية إلا أن طقوسه ومظاهره الخارجية تتعلق بالمكان والزمان، وحضوره في كل عام هو الشكل الذي يفرضه تحول الزمن وتبدل المكان، فالثقافة والمجتمع في حيز تقلبه والسياسة كل ذلك يلعب دوره في تشكيل أو إعادة رسم المظاهر المختلفة للحياة بما في ذلك الطقوس الدينية والعبادات، خاصة أن رمضان بالذات بات ولحد ما ظاهرة اقتصادية وثقافية في المجتمعات أكثر من كونه مرموزا دينيا بحتا، بحيث أصبح صعبا فرز المساحة الفاصلة بين الديني والدنيوي، كما يقال.
فإذا كانت الناس في المتخيل الفكري والمنهج التربوي، تربط شهر رمضان بصناعة النفس وإعادة إنتاجها وتصفيتها ونقائها فإن هذا المعنى بات وبفعل تقدم الزمن ودخول التكنولوجيا يتحقق عبر معان جديدة لم تكن في الماضي، كأن تدخل وسائط الإعلام والفضائيات والمنابر المختلفة لتقدم دروسها وعبرها وغيرها من أشكال شحذ الوعي بغض النظر عن حجم الرسالة المقدمة ومضمونها ومدى صلاحيتها، ومرات إذا تأملنا المشهد جيدا سنجد أن الرسالة ما زالت قديمة ومكررة ولم تواكب ما تغير في محيط العالم الخارجي، في حين أن الوسائل أو الوسائط التي تؤدي ذلك باتت أكثر تقدما، وهي مفارقة بين أشكال الحداثة الشكلية التي تميز مجتمعاتنا وضعف الخطاب بل وركاكته في أغلب الأحيان بحيث يتم تجهيل الناس بالمعاد من المرويات التي لا يعاد تصويرها ولا تدويرها ذهنيا لتتقاطع مع حاجيات عصر جديد وأسئلة مستجدة على كافة الأصعدة.
إن حضور الطقوس الثقافية والشعبية المتوارثة في شهر رمضان من شعب لآخر ومن دولة لأخرى يكشف عن رغبة في إعطاء الطقس الديني بعدا رائعا يتعلق بالإنسان وخصوصيته ورموزه التاريخية وأحلامه وفضاءات كينونته في هذا الوجود، وتقوم هذه الطقوس بتوظيف المخيلة الجمعية وصورها والأشكال المتباينة لأنماط الوعي الإنساني للحياة، وحتى لو وجدت ظاهرة أو طقس معين مشترك بين الشعوب فإنه يأخذ في كل بلد طابعه الخاص، فمثلا المسحراتي موجود في أغلب الدول العربية لكنه يتخذ مشهدا مختلفا في الأدائية والتصوير والقيمة والشعرية من بلد لآخر ما يعني التعايش مع الذات وسردياتها حول الكون والحياة من خلال المعاني الدينية والظروف الحياتية المباشرة.
وليس المسحراتي وحده فثمة ما لا حصر له من الطقوس والمشاهد المتشابهة التي تأخذ أشكالا متباينة بحسب الظرف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في حين تبقى المشاعر الوجدانية هي نفسها تقريبا، إذا جاز لنا أن ننظر إلى الوجدان الإنساني بوصفه قيمة مشتركة لا يمكن تجزئتها. فالوجدان هو الإحساس الغامض الذي نرى به الأشياء دون الحاجة إلى العينين، هو تلك القدرة الإنسانية على سبر الأغوار المنسية في المشاعر والذوات بحيث يتاح ترجمتها فيما بعد إلى مرئيات ومحسوسات قائمة على المنظور الأولى الذي شكله القلب أو الضمير بقدرته على النفاذ إلى الماوراء والمخفي.
في السودان ونحن نستعيد صور الأمس فالصورة هي في حد ذاتها تختلف من مدينة لأخرى ومن بلدة لأخرى فليس كل الصور نفسها، كما أن لكل إنسان ما يسطره في ذاكرته ووجدانه ما يجعل الإحساس ليس واحدا في كل الأحوال، وهذا هو سحر الذوات البشرية التي لها القدرة على إبداع التنوع والتجدد في كل شيء بحيث يذوب الجمود وتدخل الحياة في مساحات أخرى من التواجد والتباين الثري. كما أن صور ما قبل عشر سنوات ليست هي صور اليوم حتما، وفي حياة كل منا يمكن أن يشهد هذا التغيير الذي يتم وفقا للظروف المختلفة التي تمر بها التجربة المجتمعية والإنسانية.
في وجدان كبار السن وصورهم إذن ما يختلف تماما عن الصغار اليوم، رغم أن ثمة مشاعر قد تبدو متشابهة، لكنه تشابه شكلي في اللافتات العريضة وليس في جوهر الأشياء، ولهذا فإن أشواق بعض الناس لاسيما الكبار للماضي يشكل في كثير من الأحيان الرغبة في رؤية الصور "المتفردة" لما عاشوه بظن الإنسان أن زمانه دائما هو الأجمل والأزكى، خاصة أزمنة الطفولة، التي تعني لكثير من الناس الواحة التي يستظلون بها ويغرفون منها الحيوية لباقي حياتهم وكلما أظلم الزمان عادوا إليها ليتخذوا منها المأوى والتجسيد للمعاني المفقودة في اللحظات الراهنة من واقعهم المعاش.
وبالنسبة لي شخصيا فإن الطقوس الدينية الحية تتعلق برمضان وبالأيام الأولى من شهر ربيع الأول حيث يكون الاحتفال بذكرى ميلاد الرسول الأكرم، وهذا عالم آخر له حيويته في السودان خاصة في ذاكرة الأطفال، لأن كثيرا من خصائص المولد النبوي يتعلق بإكرام الصغار وربما هي إشارات غير مباشرة لتحفيزهم بحب النبي بأشكال غير مباشرة في المُعطى، هذا الإكرام الذي يكون بالإغداق عليهم، سواء بالمال والحلوى والألعاب في ساحات الاحتفالات، لكن هذه الطقوس هي الأخرى بدأت وبفعل الظروف الاقتصادية وتبدلات الأزمنة تتغير وتدخل في ما يجعلها تفقد ما كانت عليه من الحركية، وطبعا هناك الأعياد الدينية ولكنها أقصر زمنا، ليبقى رمضان هو المدة الأطول ذات التنوع والثراء في القيمة والعطائية والابتكار والفنون في الروحانيات والترفيه والتثقيف وغيرها من المشاهد المتعلقة بهذا الشهر.
اليوم ثمة حياة بات فيها الزمن عاملا مركزيا يحرك الأشياء ويقيّدها بحيث يقرّب الإنسان من المعنى أو يبعده، ووسط هذا التهافت اليومي فإن رمضان نفسه بات ينأى عن قيم مركزية حافظ عليها لعقود طويلة، في حين تبقى حقيقة المركز في ذاتها أمرا ملغزا ليس بإمكاننا أن نفهم أين هو بالضبط؟ ويبقى للإنسان أن يتأمل ويتدبر وينظر فما وراء المعاني والأشياء بهدف أن يرى صورة ثانية ومتجددة للحياة، هذا الشيء الذي يتحقق وبوسائل ليست محدودة. فالغالب أن رحلة المرء في ظل هذه الطقوس وما تشير إليه من ابتكارات وتقاليد وقيم، يتعلق بالبحث عن الذات، أي الأنا في سرها الغامض والمتماهي مع العالم في أبهى صوره حتى لو تكن تلك الهيئة واضحة وجلية في أغلب برزوها، وتتطلب الصبر والأناة والتدقيق العميق بالمعرفة.
[email protected]





تعليقات 1 | إهداء 0 | زيارات 4671

خدمات المحتوى


التعليقات
#1294056 [التشيلاوي]
1.39/5 (10 صوت)

06-28-2015 10:55 AM
يا لك من مبدع ... مقالك ده زي كورية الرقاق باللبن في السحور ... خاصة القفلة الحلوة للمقال ( فالغالب أن رحلة المرء في ظل هذه الطقوس وما تشير إليه من ابتكارات وتقاليد وقيم، يتعلق بالبحث عن الذات، أي الأنا في سرها الغامض والمتماهي مع العالم في أبهى صوره حتى لو تكن تلك الهيئة واضحة وجلية في أغلب برزوها، وتتطلب الصبر والأناة والتدقيق العميق بالمعرفة.) الله يحفظك


عماد البليك
عماد البليك

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة