ثقافة قانونية
01-24-2017 02:14 AM


المُتابع لأخبار القضايا التي تُنشر بالصحف وووسائل التواصل الاجتماعي، يكتشف مَدَى افتقارنا لأبسط مبادئ الثقافة القانونية، وجَهلنا بكثيرٍ من الأساسيات، ولولا أنّ المُواطن السُّوداني نفسه يجهل كثيراً من حُقُوقه ولا يَسعى وراءها لكانت مُعظم الصحف قد أغلقت أبوابها بفعل غرامات التعويض لمُتهمين أسميناهم المُجرم والقاتل والمُغتصب.. إلخ، ثُمّ برّأتهم المحكمة، أو حَاكمتهم بجرائم أخرى.

أولى القواعد يعرفها ويرددها الجميع دون أن يمتثلوا لها، وهي أنّ المُتهم برئ حتى تتم إدانته، لكن رغم ذلك تتم إدانة المُتهمين في الجرائم المُختلفة كل يوم قبل إدانتهم من المحكمة، ببساطة لأنّنا لا نفرِّق بين المُشتبه به، والمتهم، ثُمّ المُدان. ولا يحتاج المرء أن يكون قانونياً مُتخصصاً لمعرفة المبادئ القانونية الأساسية، فيكفي أن تكون مُتهماً مُزمناً، مثل كثير من الصحفيين، أو من الذين يُتابعون جلسات بعض المحاكمات، لتلم بهذه الأساسيات.

دارت هذه الخواطر بذهني وأنا أتابع أخبار محاكمة أصدقاء لي في قضية مركز "تراكس"، فبعد آخر جلسة لتوجيه التهم، خَرَجت الصحف في اليوم الثاني بأخبار تحمل كلمات مثل تبرئة وإدانة، وتَمَادت وسائل التواصل الاجتماعي في استخدام توصيفات خَاطئة لما حدث، وهي مرحلة توجيه التُّهم من المحكمة.

تبدأ مثل هذه القضايا بعد تحويل الملف من النيابة للمحكمة، وتُوجِّه النيابة تهماً تحت مواد محددة للمُتهمين، فتستلم المحكمة الملف وتبدأ جلساتها. المرحلة الأولى يتولى فيها الاتهام مُحاولة إثبات التُّهم على المُتهمين وفق المواد المُحَدّدة من النيابة، فَيتم سَماع المُتحرِّي وشُهود الاتهام. ثم يدرس القاضي ما قدّمه الاتهام ويُحدِّد جلسة لتوجيه التُّهم من المحكمة. وعَادةً إما أن يقتنع القاضي بوجاهة التُّهم بالمواد المُحدّدة كلها، أو يقبل التُّهم ببعض المواد ويرفض بعضها بحسب تقديره لحيثيات الاتهام، أو يعدل في المواد، أو قد يشطب التُّهم كلها ضد بعض المُتهمين أو ضدهم كلهم. في كل هذا لا تكون قضية الدفاع قد بدأت بعد، وهذا ما حَدَث في قضية مركز "تراكس"، إذ لم يقتنع القاضي بحيثيات الاتهام ضد ثلاثة من المتهمين فقام بشطب قضيتهم، وعدل التُّهم ضد ثلاثة آخرين.

هذه المرحلة ليست فيها إدانة أو براءة، بل قُبول الاتهام أو شطبه، ثُمّ يتيح القاضي للدفاع أن يقدم شُهوده ومُرافعاته في القضية، وفي النهاية يُوازن القاضي بين حيثيات الاتهام وما قدمه الدفاع دحضاً للتهم، ورغم أن القاضي قد قَبِلَ توجيه التهم ضد المتهمين في المرحلة الأولى، إلاّ أنّ من حقه بعد ذلك أن يحكم بما يراه، فقد يحكم في النهاية ببراءة المتهمين بعد سماع قضية الدفاع، أو قد يحكم عليهم بأحكامٍ مُختلفةٍ.

ومن المُهم أن نُشير هنا إلى ما ظَلّ يرفدنا به الأستاذ نبيل أديب من مقالات في الثقافة القانونية بلغة الصحافة، فهي مكتوبة أصلاً للقارئ العادي وليس للقانونيين المُتخصصين، وتربط دائماً بين المبادئ القانونية وبين وقائع تحدث على الأرض، وليت الأستاذ نبيل يجمع هذه المواد في كتابٍ، فهي ستُشكِّل مرجعاً لا غنىً عنه لكل المُهتمين وأيضاً المُتهمين المُزمنين.

التيار





تعليقات 1 | إهداء 0 | زيارات 1154

خدمات المحتوى


التعليقات
#1587612 [علي احمد جارالنبي المحامي والمستشار القانوني]
1.00/5 (2 صوت)

01-24-2017 09:15 AM
لكم التحية الأستاذ فيصل محمد صالح وانتم تشيرون لهذه المسألة الهامة ، وحيثما ما عرف المواطن العادي شيء من الثقافة القانونية كلما اختصر الطريق الى استقرار المجتمع ، ذلك ان الثقافة القانونية تصبح ضرورة لرقي وتطور المجتمع ، ومثل هذا التطور يحدث دائماً في أجواء ذات سعة في تبادل الثقافات وتداولها ما بين المختصين وعامة الناس وللصحافة الدور الكبير في هذا الجانب ، ومن لنا بصحافة تقوم بهذا الدور في هذا الزمان الذي تنغمس فيه الصحافة في برك آسنة في ظل نظام لا يستأنس للصحفي المثقف الذي يهتم بتثقيف العامة وتمليكهم أدوات حقوقهم ..؟!.
عوداً على بدأ وللقاعدة الذهبية ( المتهم برئ حتى تثبت ادانته )
من المؤسف له ان هذه القاعدة لم تعد تطبق على الجميع عندنا في السودان اليوم على غير ما كان في الماضي وكثيراً ما نجد اهل السلطة والمال ُيُنظر اليهم بعين البراءة حتى ولو ثبتت ادانتهم التي لا تتحقق قضاءاً برغم الأدلة القانونية الدامغة في مواجهتهم والعكس صحيح بالنسبة لعامة الناس خاصة من أولئك الذين لهم رأي في إدارة شؤون البلاد حيث تلصق بهم التهم المبتسرة الجائرة وصور الاشتباه وتحبك ضدهم أفعال لم يقموا بها ومن ثم الحكم عليهم في مرحلة التحري المبدئ على يد متحري او محقق غير مختص بالاجراء قانوناً فيدانوا هؤلاء وينفذ الحكم عليهم دون ان تمر اجراءاتهم على نيابة ولا قضاء وهم مغيبون عن حقوقهم القانونية في ابسط مراحلها ....
.
نعم الأصل في الانسان البراءة مبدأ اصيل ورصين من مبادئ الدين الاسلامي الحنيف الذي كان حريصاً حرصاً دقيقاً في هذا الجانب وقد سبق فيه كافة القوانين الوضعية حديثها وقديمها في أسلوب راقي يعبر عن قيمة الانسان وصيانة روحه وبدنه حتى لا يدان برئ وكم عندنا اليوم من مدان بًرئ ومن برئ أُدين وهكذا تضيع القيم وتخرب الذمم في ظل نظام يدير شؤون العباد ببطش السلطة والاستبداد

حفظكم الله .........


فيصل محمد صالح
فيصل محمد صالح

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة