المقالات
ثقافة وآداب، وفنون
أحمد الملك
ممنوع الموت يوم زواج العم بابكر! "قصة قصيرة"
ممنوع الموت يوم زواج العم بابكر! "قصة قصيرة"
10-30-2017 01:26 PM

ممنوع الموت يوم زواج العم بابكر!


أخيرا أيها السادة سينتهي إنتظارقريتنا الطويل: سنحتفل بزواج العم بابكر، النائب السابق في الجمعية التأسيسية، سيكون زواجا تاريخيا، ليس فقط لأن معظم من هرموا في حمى إنتظار حضور هذه اللحظة العظيمة، إنتقلوا إما الى الدار الآخرة أو الى النسيان، بل لأنّ مجرد إعلان الزواج كان يمثل لحظة إنتصار يتيمة على عدد من الكوارث الوطنية التي حالت طوال سنوات دون إتمام الزواج.
الجو يبدو رائعا لا توجد إشارات أعاصير أو هبوب، نهر النيل يبدو هادئا لا خطط لديه لفيضان مفاجئ يغرق الجزر والبيوت ويؤدي لتأجيل زواج العم بابكر مثلما حدث قبل عشرة سنوات. الناس جميعا يبدون في صحة جيدة بفضل الضوابط الجديدة التي طبقناها بالكشف على كل مسافر يحضر الى القرية بواسطة طبيب متطوع، لضمان عدم وجود أية اصابة بالكوليرا تؤدي لوفيات مفاجئة تؤدي لتأجيل الزواج مثلما حدث عدة مرات طوال الاعوام الماضية.
تأكدنا من عمل لجنة البعوض المنوط بها تجفيف البرك والمستنقعات التي خلّفها فيضان النيل، والتأكد انه لا يوجد بعوض ناقل للملاريا في القرية، لتجنب ملاريا وبائية تؤدي لتأجيل الزواج مثلما حدث في العام الماضي. كان عمل اللجنة متقنا لدرجة اننا اكتشفنا انهم قاموا بتجفيف نهر النيل نفسه في بعض المناطق التي يتحول فيها بحذاء غابة السنط، الى مستنقع يعج بمختلف الحشرات الوطنية الطائرة والزاحفة.
في العام الماضي أُصيب شقيق العروس بملاريا خبيثة، جعلته يدّعي النبوة بصورة غير تقليدية، فقد إعتلى أعلى شجرة نخيل في القرية ليخطب في الناس ويدعوهم الى دينه الجديد، واعدا بالحصول على دعم سماوي للقضاء على الأوبئة المهمة الثلاث: الجوع والكوليرا والجنجويد. بعد تقديم موعظته الأولى، بقى ساكنا مثل طائر يحضن البيض في عشه، دون أن يكترث لأي من المصائب الدنيوية في الأسفل، والتي كانت جديرة بإهتمام أي نبي مسئول، حيث رجال الشرطة الشعبية يطاردون الباعة المتجولين، وحيث الأرامل اللائي كن يحملن عريضة يقدمنها في كل مناسبة في القرية تطالب بإعادة ازواجهن المفقودين في مختلف الحروب الأهلية. كما تجمع أشخاص كانوا يحملون عريضة يطالبون فيها بضرورة إضافة حزب الحكومة والجراد الى قائمة الأوبئة الوطنية. كان برنامجه إصلاحيا يقوم على استعادة كل المال العام المسروق وتحقيق عدالة أرضية بين جميع المواطنين، أعلن أحد الحضور انه من المحزن أنّ الشخص الوحيد في القرية الذي يقول كلاما عاقلا، قد فقد عقله. لسوء الحظ لم يتمكن من تنفيذ برنامجه فقد كان جنونه مؤقتا، قد تُسبب الملاريا جنونا مؤقتا لكن الدواء المستخدم لعلاجها يسبّب أحيانا جنونا دائما، وفي كل الاحوال لم يتسن له تبليغ دعوته، حين إدعى أنه نبي في البداية لم يكترث له أحد، لكنه حين بدأ يتحدث عن الفساد وإستغلال السلطة وجرائم الحرب، هرع رجال الأمن واستخدموا سلالم المطافئ لإنزاله من علياء جنته وأخذوه معهم، لقد سبق لهم إعتقال رجل ألقى قصيدة شعرية في إحتفال مدرسي منتقدا النظام، كما اعتقلوا ضابطا سابقا في الجيش تحدث يوم السوق عن الجرائم التي ترتكبها ميلشيات النظام، وإعتقلوا مرة مدرسا ومزارعا وسائق جرّار زراعي بتهمة قيادتهم لنشاط معاد للدولة، لكن تلك كانت المرة الاولى التي يعتقلون فيها نبيا.
حين عاد مرة اخرى الى القرية بعد عدة أشهر من الاعتقال، بدا مثل شخص آخر لم يفقد الرغبة فقط في تغيير العالم بل في تغيير حتى ملابسه، إنزوى في ركن قصي في المسيد بملابسه المتسخة، المعطونة بالعرق والطين وبقايا دماء التعذيب الذي تعرض له في معتقلات الأمن، كان يرفع الاذان أحيانا ويكتفي بمراقبة الداخلين والخارجين من المكان في معظم الأحيان.
حين إنتشر خبر نبي النخلة في القرى المجاورة هرع الناس لإستثمار المعجزة، جاء المرضى يبحثون عن أدوية منخفضة التكلفة بسبب إرتفاع سعر الدواء، وجاءت نسوة فاتهن قطار الزواج، بحثا عن معجزة قطارات اللحظة الأخيرة، وجاء رجل كان قد طُرد من الجيش قبل سنوات طالبا دعما لتدبير انقلاب لا يبقي ولا يذر، غزا رجال الشرطة المكان بأعداد كبيرة، كنا نظن انهم جاءوا لمنع إنتشار الفوضى لكننا اكتشفنا انهم جاءوا لمصادرة بضائع الباعة الذين لم يحصلوا على ترخيص للبيع في ساحة نبي النخلة . .
بدأت الفرقة الموسيقية العزف منذ ثلاثة أيام لطرد أية إحتمالات للموت طبقا لشائعة أن الموت لا يقترب أبدا من المناطق الغارقة في الفرح وضجيج الموسيقى، ولتجنب تكرار واقعة وفاة عازف الاكورديون الوحيد، الذي استجلب في المرة السابقة من قريته، وأثناء حضورة بحماره الى القرية ضربت الحمار صاعقة استوائية ادت الى وفاة الحمار والعازف فورا ، واحتراق الاكورديون، فتم تأجيل الزواج إحتراما لذكرى العازف، وذكرى الحمار الذي كان حمارا شهيرا بقوته الخارقة وفحولته الوطنية المفرطة وبأنه أب غير شرعي لكل ابنائه من الحمير في المنطقة.
قامت اللجنة بتعليق يافطة قماشية في مدخل القرية على اعلى شجرة سيسابان ويافطة اخرى فوق كثبان الرمال التي تشكل الحدود الشرقية للقرية مكتوب على اليافطة: ممنوع الموت او إستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بين اليافطتين!
كان ذلك قرار اتخذته اللجنة لمنع تداول اية أخبار او مفاجآت تؤدي لتأجيل الحفل، على ان يسري القرار منذ لحظة صدوره وحتى نهاية حفل الزواج فجر اليوم التالي. ولتنفيذ القرار تعين طرد جميع الاشخاص الاكثر تأهيلا للموت من القرية وإستضافتهم في قرية مجاورة في منزل هجره اصحابه منذ سنوات.
جاء العم بابكر الى مكان الاحتفال مستندا على كتف وزيره الاول، كان مصرا على عدم إجراء اية تعديل وزاري، واستخدام نفس الوزير الذي إختاره في المرة الاولى حين تأجل الزواج قبل سنوات بسبب إعتقال العم بابكر بعد وقوع الانقلاب العسكري الذي إطاح بالنظام الديمقراطي وجمعيته التأسيسية التي كان العم بابكر نائبا فيها. شاخ الوزير الاول نفسه حتى انه استند على كتف احد اصدقائه كان قد شاخ ايضا فاستند هو ايضا على كتف شخص آخر، حتى بدا المشهد مثل مظاهرة للمسنين ضد إستئناف الفرح المتأخر.
أخيرا جلس العريس بجانب عروسه، كانت العروس قد بذلت جهدا تجميليا مضنيا للحفاظ على جزء من بريق سحر إبتسامتها القديمة قبل وقوع الانقلاب الانقاذي. بينما إحتفظ العريس من ملامحه القديمة فقط بشارب ضخم حرص على صبغه باللون الاسود لاضفاء مسحة شبابية متأخرة على مظهره، رغم أن الوزير حذّره من مخاطر صبغة الشعر مذّكرا له بقصة العريس الذي نسي شاربه المصبوغ في حمى الزفاف، ففارق الحياة قبل نهاية الحفل حين أقدم على تمرير لسانه فوق الشارب المسموم، بسبب الارتباك والخوف من الحياة الجديدة بعد العيش وحيدا طوال سنوات من الحرمان.!
فجاة سمعنا صوت طلقات رصاص! يا للكارثة! لا بد أنهم رجال الجيش جاءوا بحثا عن الشباب لإرسالهم للحرب! أو الجنجويد يطاردون بعض مهربي البشر! أمرنا بإستئناف الفرح رغم تزايد صوت إطلاق الرصاص في الخارج. قمنا برفع صوت مكبرات الصوت حتى تجاوزنا المدى المسموح به بسبب القرار الحكومي الخاص بحظر الفرح بعد منتصف الليل! (بسبب إنشغال الناس بمصاعب المعيشة كان الفرح محظورا ايضا خلال النهار). لحسن الحظ كان العريس ووزرائه ونواب وزرائه ومساعديه يعانون جميعا من ضعف السمع، فلم يسمعوا صوت اطلاق الرصاص في الخارج.
تقدمت لجنة الزفاف في شكل حلقة حول العريس ووزرائه، وبالهتاف والتصفيق صنعنا جدارا صوتيا حول المكان، بينما كان العريس المرتبك بسبب الضجيج وقيظ الاجساد، يدور رافعا سيفه داخل الحلقة، يتفحص الأجساد المتراصة، وكأنه يريد فتح ثغرة في الجدار البشري من حوله ليلوذ بالفرار.

للحصول على نسخ بي دي اف من بعض اصداراتي رجاء زيارة صفحتي

https://www.facebook.com/ortoot?ref=aymt_homepage_panel

أحمد الملك
[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 1567

خدمات المحتوى


أحمد الملك
أحمد الملك

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة