المقالات
السياسة
ليلة المتاريس (9 نوفمبر 1964): علم الثورة المضادة (1-2)
ليلة المتاريس (9 نوفمبر 1964): علم الثورة المضادة (1-2)
11-11-2017 04:31 AM

image
مبارك حسن خليفة

تبقى ليلة المتاريس (ليلة 9 نوفمبر إلى 10 نوفمبر 1964) أكثر الثقوب عمقاً في دراسات ثورة أكتوبر 1964. فهي من مهملات الثورة حتى قال الأستاذ كمال الجزولي إنه جف نشيدها " المتاريسُ التي شيَّدَتها، في ليالي الثَّورةِ الحمراء هاتيك الجُّموعْ" على حلق الراديو وحنجرة مغنيه محمد الأمين (كلمات مبارك حسن خليفة وتلحين مكي سيد أحمد). والسبب في ذلك أن أكثر دارسي الثورة على عقيدة أنها ثورة فشلت في تحقيق أهدافها. ويلقون بلائمة الفشل على الصفوة السياسية بلا فرز لخلافها وضيق أفقها وما شئت في ما صار معروفاً عندنا بمتوالية "الفشل وإدمان الفشل". والمطعن الأكبر في هذه العقيدة أنه لم تكن لأي ثورة، متى قامت وقضت على النظام القديم، أهدافاً تطابقت عند الجميع. وعليه فالقول بأن الثورة لم تحقق أهدافها لا معنى له إلا إذا أتبعنا ذلك بتعيين تلك الأهداف، ومن كان ورائها من الثوار الذي تفرقت أهدافهم وسبلهم بعد النصر. وكانت ليلة المتاريس المهملة ضربة البداية في شتات الثوار الذين كسروا النظام القديم ثم تفرقت سبلهم. وانتهيتا إلى تَحَقق أهداف لثورة ولكن على سنة القوى المحافظة واليمينية: تغيير شكلي (ولكن هام) في صورة الحكم. أي من العسكرية إلى البرلمانية وحسب.
وبالنتيجة خلت دراسات ثورة أكتوبر مما سماه الدكتور عبد الله جلاب "الثورة المضادة" في مقاله في الكتاب الذي حرر الدكتور حيدر إبراهيم في 2014 في مناسبة الذكرى الخمسين للثورة. وكانت ليلة المتاريس هي الفيصل بين من كان هدفهم مواصلة الثورة لعملية التغيير المؤسسي التي بدأت بسقوط النظام القديم وتعميقها، وبين من اكتفوا من الثورة بزوال النظام العسكري محافظين على قواعده الاجتماعية والسياسية. فكانت الثورة عند الأخيرين نقلة بسيطة من النظام العسكري إلى البرلمانية التي لهم من الغزارة البشرية ما يؤمن لهم بسط نفوذهم على الحكم البرلماني. فقد رأوا مرأى العين كيف أجرت الثورة تغييراً منقطع النظير في تركيبة الحكم بتمثيل جمهرة الكادحين من عمال ومزارعين في مجلس الوزراء بما لم يحدث قبلها ولا بعدها. وجاءت ليلة المتاريس، كما وصفها كمال الجزولي في كلمة أعاد نشرها قبل أيام، بضروب من الجذرية الجماهيرية المبدعة بما جعل القوى التقليدية وشيعتها تخشى من عواقبها وعواقب مثلها.
فرضت تلك الليلة استقالة الفريق عبود، الرمز المتبقي من النظام العسكري في إطار مساومة انتقال الحكم كلية للمدنيين. وفرضت كذلك اعتقال الضباط العظام أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإرسالهم إلى سجن زالنجي. وهكذا استكملت ليلة المتاريس دورة الثورة على النظام العسكري بنقض المساومة التي فرضها ميزان القوى في آخر أكتوبر 1964، وبدأت العقوبة على الانقلابيين خارقي الدستور ممن استظلوا بالمساومة وخرجوا مطلقي السراح. وعاد حزب الأمة والاتحادي والإسلاميون بعد "نكسة الثورة" للتمسك بنص المساومة لاحقاً في البرلمان في 1965 بقرارهم رفض محاكمة مدبري انقلاب 17 نوفمبر 1958.
لم ترتعب القوى التقليدية من المتاريس فحسب بل ارتعبت قوى البرجوازية الصغيرة، واليمينة منها خاصة في حركة الإسلاميين، التي قادت الثورة من خلال جبهة الهيئات (الهيئات المهنية والنقابية للخريجين والأفندية خاصة). فقد حمّلوا الجبهة وزر الانجرار وراء ما زعموا أنه إشاعة أهاجوا بها البلد ليلة المتاريس. ورأوا في الليلة جذرية سياسية لا قِبل لهم بها. فبدا لهم أن الثورة قد شبت عن طوقهم وركبت طريق الجذرية الخطر. فقرروا كبح الجماح. فبدأت طوائفهم حملة الانسحاب من جبهة الهيئات. وبدأ الانسحاب بنقابة أساتذة المعهد الفني. ثم توالى تصحير عضوية الجبهة. وأذكر بحزن شديد اجتماع الجمعية العمومية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي صوت لصالح مشروع قرار من الاتجاه الإسلامي بالانسحاب من الجبهة. وترك معشرنا في اليسار في العراء. ولم تقم لجبهة الهيئات، التي كانت تعد لتكون كياناً سياسياً ثابتاً في السياسة السودانية، قائمة. وجرى بالطبع استعادتها في انتفاضة 1985 وتمتعت بعمرها القصير مرة أخرى.
دخلت ليلة المتاريس أدب الثورة المضادة كليلة ليلاء من وسواس الشيوعيين. فهي عندهم بنت إشاعة. فعدوا كل ما جاء في أسبابها حيلاً شيوعية. وحتى المرحوم شوقي ملاسي المعدود من حلفاء الشيوعيين قال إن الانقلاب المضاد الذي خرجت جماهير المتاريس لرده على أعقابه كان وهماً. وستجد نفس العقيدة في رسالة السفير الأمريكي لوزارة الخارجية الأمريكية. وستجد مع ذلك في رواية الأستاذ فاروق أبو عيسى، التي نقلها عنه كمال الجزولي، دلالات قوية على أنه كان هناك ما كان يدبر للثورة الظافرة. فتجد أن القوات المسلحة قبل يومين من ليلة المتاريس طردت من صفوفها شباب الضباط الذين وقفوا مع الثورة الشعبية وهم بالاسم: فاروق حمد الله، والرشيد أبو شامة، وتوفيق محمد نور الدين، وفيصل حماد توفيق، وجعفر نميري. ولما سئل عبود قال إنه إجراء داخلي متعلق بالجيش. وقادت جبهة الهيئات تظاهرات ضخمة في ليلة السابع من نوفمبر من استاد الخرطوم حاصرت بها مجلس الوزراء واضطرت عبود لاسترجاع الضباط المطرودين.
وخيمت على الناس من بعد ذلك مخائل ثورة مضادة تأتي من داخل الجيش باسم ما عرف ب"تأديب الأفندية" الذين تطاولوا على "الجهادية." وتولد من ذلك خبر التحرك المضاد ليلة التاسع من نوفمبر، ليلة المتاريس. وجاء بالخبر لجبهة الهيئات شباب من إشلاقات الجيش تأخر آباؤهم عن البيت، فسعوا إليهم في معسكراتهم، ووجدوهم في حالة استعداد يَلقي عليهم الضباط خطباً عن تطاول الأفندية ووجوب تأديبهم. فتصرفت جبهة الهيئات على ضوء هذه المعلومات في مناخ تواترت فيه وقائع ومؤشرات التحرك المضاد ضد الثورة.
ونسأل، متى قبلنا جدلاً أن ليلة المتاريس بنت إشاعة، ألا تقوم أضخم أطوار الثورات على إشاعة؟ سننظر إلى حالة شائعة "ثورية" من الثورة الفرنسية في كلمة قادمة.

[email protected]





تعليقات 7 | إهداء 0 | زيارات 1662

خدمات المحتوى


التعليقات
#1709299 [Ahmed]
3.00/5 (2 صوت)

11-11-2017 11:42 PM
ليلة رُعب) بأمبدة.. "متَفلِّتون" يُهاجمون (3) أسواق
نهب أموال وموبايلات وبضائع.. والشرطة تنشط لضبط الجُناة واستعادة المسروقات (صور)
هذه هي ليلة المتاريس الحقيقية مع إحترامي للحرامي


#1709237 [محمود محمد ياسين]
0.00/5 (0 صوت)

11-11-2017 05:45 PM
الذى يتفاداه الناس أن القوة الذاتية لليسار كانت اضعف من أن تأخذ الثورة لمستوى أعلى على طريق الإنجاز. وهذا يؤكده ما قلته أنت "وترك معشرنا في اليسار في العراء. ولم تقم لجبهة الهيئات ...."

الكلام عن "ضروب من الجذرية الجماهيرية المبدعة" كلام إنشائى لا معنى له.الصحيح هو أن الجماهير الثائرة إفتقدت للقيادة الصحيحة التى يؤهلها أفقها من إدراك أن "القوى التقليدية وشيعتها" سوف تقاوم الحراك الجماهيرى. بمعنى آخر أن الجماهير تركت لعفويتها...

هنالك كتابات حول دور الثورة المضادة فى القضاء على ثورة أكتوبر على عكس ما يورد البعض. والكتابات التى أشير لها تدعو إلى تعلم أن النشاط السياسى اليسارى يكون عديم الفائدة عندما لا يربط مقاومةالانظمةالمستبدة بمقاومة الشرائح الإجتماعية خارج تلك الأنظمةولها تناقضات معها تدور حول مصالح لا علاقة لها بمطماح الشعب.

النقطة والتى لا تسئ لأحد هى التعلم (سلباً) من أكتوبر، وخاصة فى هذا المنعطف المصيرى.

لك الإحترام والتقدير.


ردود على محمود محمد ياسين
United States [عبد الله علي إبراهيم] 11-11-2017 11:38 PM
شكراً محمود. ولكن "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" لم يترك شاردة ولا واردة من جهة "نواقص الحزب الشيوعي" اتي لم نستعد بها لثورة جذرية بينما كنا نرنو لثورة تفير نظام الحكم بإعادة الجيش للثكنات. "الماركسة و" جرؤت في نقد ما لاحظته من وهن بعد 3 أعوام من الثورة.


#1709205 [بروف على شمو]
4.18/5 (7 صوت)

11-11-2017 02:42 PM
ياخي عملت شنو لمخطوطة"رجوعالشيخ الى صباه فى القوة على الباه" اكان رسلها ليك صديقنا المشترك سيف دين خواجة ظاتو؟ لانو عامل ارضي وسافوتا وقال لى انو زهج وفتر من مطالبتك وبانو انت ليك زمن عامل فيها "اضان الحامل طرشا" مع انو كلنا بنعرف انك عاقر بدنيا وفكريا
مخلصك علي شمو اكبر مناصر للشمولية في السودان


#1709127 [radar]
2.47/5 (7 صوت)

11-11-2017 08:49 AM
الواحد بيستغرب كيف لقامات كبيرة ومفكرين كبار كالدكتور عبد الله علي إبراهيم يوجوهون كل جهدهم في كتابة مقالات عن أحداث مضى عليها عقود طويلة من الزمن وأصبحت في طي النسيان بالرغم من أن الحاضر ينؤ بالمشاكل التي تبحث عن حلول وأفكار جديدة. رجاء كفاية كتابة عن المهدية والدولة السنارية والاستعمال والاستقلال وحتى ثورة أكتوبر إذا كان كل ذلك تمخض وولد الوضع الذي نكابده والمعضلة التي أقعدت بنا دون شعوب الأرض وخلق الله. نرجو من جميع العواجيز الذين لاهم لهم غير تذكيرنا بأحداث مضت وانتهت ولا يقول لي أحدهم الماعندو كبير يفتش ليه كبير أو أن الحاضر هو ولد الماضي الدولة يسيطر عليها العواجيز, الغناء لا يطيب إلا بالعواجيز التلفزيون لام يكون ضيوف برامجه من العواجير وأخير 39 مليون عجزوا أن يأتوا بواحد ليدير لم أتحاد الكرة فلأجؤا لعجوز هرم بلغ من العمر عتيه. أخجل أي الشعب وحقيقة ليس الشعب فالتخل النخب السودانية. وما دليلنا على الفشل أكثر من اتحفالنا الطفولي بكل سوداني في بلاد المهجر يتقلد منصابا ما في البلد الذي يعيش أو أن يحقق طالبا درجات مميزة أو تفوقا أكاديميا مع أن هذه الأشياء طبيعية جدا عند كل شعول العالم.


#1709099 [abdulbagi]
1.94/5 (6 صوت)

11-11-2017 07:19 AM
التحية للاستاذ فاروق ابوعيس احد ابطال ليلة المتاريس . تلك الليلة التى قدما درسا فى مقدرة الجماهير فى صنع الاحداث . درسا قدمه الشعب السودانى فعلا لا قولا و لا تنظير من بروج عاجية


#1709088 [قنوط ميسزوري]
4.83/5 (7 صوت)

11-11-2017 06:58 AM
[[وأذكر بحزن شديد اجتماع الجمعية العمومية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي صوت لصالح مشروع قرار من الاتجاه الإسلامي بالانسحاب من الجبهة]]
و إستمر ذلكم الحزن "الشديد" حتى لزمت 'فُرَاش' الشيخ حسن الترابي لمدة 3أيام!


عبد الله علي إبراهيم
عبد الله علي إبراهيم

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة