ليست هي المرة الأولى التي تقود فيها الأجهزة المختصة حملات أمنية ضد تجار الدولار وتلقي القبض على عدد من كبار هؤلاء التجار.
بل ليست هي المرة الأولى التي تضع فيها الحكومة تجار العملة تحت طائلة قوانين صارمة، وصلت في بدايات عهد الإنقاذ لدرجة تنفيذ حكم الإعدام على بعض هؤلاء التجار.
ثم عادت السلطات خلال السنوات القريبة الماضية ونفذت حملات واسعة منذ 2010 ثم في 2014 و2015 و2016، كانت في كل حملة من حملات تلك الأعوام تلقي القبض على العشرات من كبار تجار العملة، وتحيلهم للمحاكمة، وكانت تلك الإجراءات الأمنية في كل مرة تظهر نتائجها بشكل سريع بل فوري على سعر الدولار في السوق الأسود، حيث يتراجع السعر بشكل ملحوظ خلال ساعات قليلة بعد تنفيذ تلك الحملات، لكن ما يلبث حتى يعود إلى وضعه ونشاطه بعد فترة وجيزة.
وقد تكون العاصفة الأمنية في هذه المرة أقوى وأعنف، بعد أن تبنت قيادة الدولة مع وزراء القطاع الاقتصادي والأجهزة المختصة إجراءات أكثر ردعاً لوقف التصاعد الكبير للعملات الأجنبية مقابل الجنيه، شملت إدراج تجارة النقد الأجنبي ضمن جرائم غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وتخريب الاقتصاد، والتي تصل عقوبتها الإعدام.
هذه الإجراءات الحالية على مستوى المعالجة الأمنية وليست المعالجة الاقتصادية يمكن وصفها بأنها رد فعل بحجم الفعل، وأعني فعل التصاعد الكبير وغير المسبوق في سعر الدولار والذي كان قد حدث خلال وقت قصير الأسبوع الماضي.
لكن تبقى الحقيقة التي نعرفها جميعنا أن المعالجات الأمنية والقوانين الرادعة مهما تكن صارمة، فهي وبجانب أنها لا تشكل العلاج الناجع لتدهور الجنيه السوداني أمام العملات الأخرى، فهي كذلك ومع الأسف لن تمثل نهاية حتى لظاهرة تجارة العملة، لأنها لم تعالج أساس المشكلة، وهي شح النقد الأجنبي وعدم كفايته لحاجة السوق بشرائحه وقطاعاته المختلفة، كما أن السوق الأسود لم يتوقف نشاطه إطلاقاً بل هو الآن وبرغم كل هذه الإجراءات لا يزال ينشط ربما بعيداً عن أشعة الشمس، وبدرجة عالية من الحذر، لكن تتم معاملاته هنا وهناك لأن جزءاً كبيراً من هذه المعاملات يتم خارج البلاد عبر تحويل مدخرات المغتربين، فهي لم تتوقف ولا للحظة واحدة قبل وبعد هذه الإجراءات التي حتى ولو نجحت في إخفاء الدولار من السوق، لكن عملية تسليم حوالات المغتربين مستمرة.
كما أنه كلما اشتد الحصار على هذا السوق الأسود عن طريق الملاحقات الأمنية فقط، فإن النتيجة النهائية دائماً تكون حدوث جفاف في الدولار ومزيد من تصعيب عملية الحصول على العملة الصعبة، الذي لا يؤدي عادة في نهاية الأمر إلا إلى ارتفاع السعر من جديد.
نعم هناك معالجة محدودة تضمنتها الإجراءات الجديدة من خلال تخفيف حاجة السوق بمنع استيراد بعض السلع، لكن لا يزال العجز عن توفير النقد الأجنبي لاستيراد بقية السلع الضرورية أو غير الممنوعة، يعني وجود حاجة للبحث عن الدولار المخفي هذا وبأي سعر، وهنا تكتمل الظروف الموضوعية لتصاعد قيمته..
نحن ننتظر من السلطات وبنفس درجة الحماس الذي أبدته الآن في ملاحقة تجار العملة، أن تحقق التحفيز الجاد للإنتاج وحماية المنتجين وإزالة عراقيل تضعها الحكومة نفسها أمام تمويل صغار المنتجين وأمام المصدرين.. هذه شعارات وتشريعات موجودة أصلاً لكنها تحتاج إلى نفس التفعيل الذي تقوم به السلطات الآن للقوانين والتشريعات التي تدين ظاهرة تجارة العملة.
شوكة كرامة
لا تنازل عن حلايب وشلاتين.
اليوم التالى
المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.