المقالات
السياسة
كيمياء المثقفين.. بين المصلحة وخندق القبيلة
كيمياء المثقفين.. بين المصلحة وخندق القبيلة
12-17-2017 04:18 AM

خلف الستار

عادةً المثقف هو الإنسان الواعي الصادق مع ذاته والحميم بمصالح الأخرين،ودائما يقدم المصلحة العامة علي الخاصة،وهو الذي ينحاز الي شعبه في أهلك الظروف وأصعبها،بعيدا عن الأطماع السياسية والمالية وتبعاتها من مناصب وغيره،فوازع القيم والأخلاق النبيلة هو شيمة المثقفين الأنقياء!بالإضافة الي عدم خضوعهم لأي مراهنات لشراء الذمم البته.
في العهد القديم كان للمثقفين دور كبير وبارز في ترقية وتنمية المجتمع في شتي السبل،فالأحياء تزخر بأندية المثقفين وتذدهر بحراكهم الإجتماعي والرياضي،والمكتبات ديمة تحتفي بروادها المستنيرين الذين تأج بهم ساحاتها زخما وإطلاعا،كما أن الملاعب الرياضية،دور السينما،والمقاهي علي أرصفة الأسفلت والأزقة،كلها تمتاز بالحضور الأنيق والمتميز للنخب المثقفة بمختلف مشاربهم،وأيضا لهم وجود نوعي في المسارح،المحافل والليالي الثقافية التي تشرئب لها الأنفس شوقا لشعرائها المخضرمين،وفنانيها سفراء الجمال الذين يملأؤن الحياة طرابا،إيقاعا وموسيقي سلسة عذبه ذات خصوصية فنية سودانية جاذبة عبر الأجيال والأزمنة!
فالمثقفين كانوا رواد الحياة وقلبها النابض وشريانها المتدفق تنميةً وحضاره،هم صناع الحياة اليوماتي ورحيق الأمكنة،حتي القرارات السياسية تخرج مزدانة بالحكمة والعلمية العالية من مطابخهم الذكية.
ولكن سرعان ما إنعدمت كل تلك المعاني والمعطيات الجميلة من الواقع فجأة!عندما جاء قوم جُدد لا يتذوقون الفن والفنون،ولا يهزهم الربيع وأزهاره ولا العود وأوتاره،فهم فاسدي المزاج ليس لهم علاج علي حد قول الإمام الغزالي،فإستبدلوا إيقاع الحياة الطبيعية الوريفة بألحانهم وموسيقيتهم الجديدة،التي تعزف ألحان الحرب،الجهاد،التمييز،العنصرية،الإستعلاء العرقي،الديني والنوعي.وحينها قلبوا ظهر الحياة الي باطنها وحولوا رحيقها الجميل الي جحيم حميم.
ففي عهدهم تغير معني كلمة مثقف وأصبح له تعريف جديد،وهو الكائن الهلامي النفعي،الأرزقي،العنصري البغيض،الذي يضع مصالحه الشخصية قبل العامة وله إستعداد كامل وقوة خرافية مُفرطة للتحالف مع الشيطان لتحقيق مأربه الخاصة!لا سيما بيع نفسه،أهله،شعبه، دينه،ووطنه بأبخس الأثمان للطغاة والإستبداديين عديمي الضمير والإنسانية.
فلسان الوضع الرأهن الذي نعيشه الأن من مصائب ومِحن وأزمات كُبري علي جميع الأصعدة،ليس إلا نتيجة لتراجع المثقفين عن دورهم الحقيقي،فالناس كانوا يعيشون بسعادة وسلام في الفرقان،القري والأرياف،والمدن بعيدا عن العلم والمعرفة،يعتمدون علي خصالهم وقيمهم الموروثه المشبعة بالحنين والمودة وكرم الضيافة،بالإضافة الي نهلهم القليل من المعارف الدينية عن طريق الخلاوي والمساجد والكنائس،وبرغم قلة محتوي مواعينهم من العلوم إلا أنهم كانوا سادة أنفسهم وزمانهم الذي يُكني بالزمن الجميل!
وبمجرد تطور الحياة وإتساع أبوابها العلمية والمعرفية في مختلف المجالات إنقلب السحر علي الساحر،حين عاد أنصاف المتعلمين الذين درسوا الجامعات الداجنه،الي الإستثمار في أهلهم وزويهم ومجتمعاتهم الطيبة عن طريق خلق الفتن،نشر الجهل وتغليفه بالدين،إثارة النعرات العنصرية والقبلية،ممارسة الغش وشراء الذمم،بث ثقافة عدم قبول الأخر بتكريس أيدولوجيا الأصالة،التفكيك الممنهج لكل القيم الراقية والراسخة،هدم القوانين والأعراف المحلية المتبعة في حل المشكلات،ترسيخ مباديء الحٌكام الظلمة والأباطره الدجالين وإرساء مفهوم القهر والإستسلام للقاهر،خلق عُرف التمييز الإستباقي والتصنيف الجغرافي القبلي والديني،تأطير الحياة بمبدأ المصلحه أولا،إزكاء ثقافة فرق تسد،تعلية لغة خداع الناس بالوعود الجوفاء للصعود السياسي،رفع الشعارات المزيفة والتطبيل للقادة السفلة،ونثر سمومهم التي تسببت في سرطان دموي حاد للمجتمع،فأصبح قاب قوسين أو أدني من الإنقراض الحتمي!
إذن إزاء تلك الممارسات القذرة من المثقفين تجاه المجتمع،رسي نوع من الفوضي الخلاقة ودب دبيب التفرقة والشتات داخل الوطن وخارجه،فالسودانيين أصبحوا غير قادرين علي التوافق في أي شيء،وجرت العادة إذا إجتمع عشره أشخاص لتكوين جمعية أو رابطة إختلفوا في التوجهات وإنقسموا عبر التصنيفات وعمهم الفشل!
فالمثقفين هم الذين صنعوا الأنظمة الدكتاتورية التي تمتص دماء الشعوب،ولهم القدح المُعلي في أفعالهم بالتوأطؤ الأيدولوجي والمصلحي،فإن لم يساهموا بجهودهم المضنية في خدمة الجهله من قادة القوم،لكان الحياة أفضل مما هو علية الأن،ولكن خضوعهم المستميت للسفلة المارقين وتصفيقهم المستمر أنتج كم هائل من الإمبراطوريات التي يتزعمها الأميين المجرمين حثالة الشعب،فكل القوقاعيين الذين ينضحون في أجهزة الإعلام المحلية كذبا وتضليلا،وأمثالهم من العبثيين المتشدقين زورا وبهتانا بأمال المهمشين،جُلهم ليس لهم قيمة تذكر ولا صوتا يعلو إن لم يرصفوا لهم الطرق الموشحة بالورود!وأخرون تسلقوا للسلطة مرارا وتكرارا علي أكتاف المشايخ المعربدين بالدين وأتباعهم التُبع،والأسوي هم أؤلئك السُذج الذين تربعوا علي قيادة الأجسام الثورية،بعد نكوصهم علي العهود وخيانة دماء شهداءهم، فأصبحوا مُدمني الرئاسة وشوكة حُوت عالقة في حلقوم النازحين واللأجئين!وعلي شاكلتهم يمضي قطار المصالح للمثقفين هواة السلطة عبر المتاجرة بالقضايا والعودة ببوابات التفاوض الحكومية غانمين!كما أن البعض الأخر يعكف هنا وهناك للملمة كُتل من النفعيين أصحاب الكُروش المنتفخه والوجوه المُملسه المنعمه،لصناعة أحزاب تشد سواعد النظام المترامي والمترهل عازفين له أجمل إيقاعات الإنبطاح والإنبراش،فالصور المقززه في هذا المضمار لاتحصي ولاتعد خصوصا اؤلئك الشرذمه الذين يعملون بخفاء لإجهاض أي شعلة وعي أو بذرة ثورة شبابية طامحة لإحداث تغيير فعلي!إضافة الي الكٌتاب والصحفيين مدفوعين الأجر الذين يكتبون مسخا مشوها علي جُدران صحفهم الصفراء.وتجار الفن الذين صنعهم الإعلام وتربعوا فرضا علي الفضائيات مرسلين ضجيجا ونشازا يُبتذل الفن وفنونه الجميلة!
في تقديري الخاص أري أن كل هذا الصخب والمسخ قد تراكم وتكثف علي أيدي النخب والمثقفين!فهم مسؤولون كامل المسؤلية إزاء هذا التدهور المريع والإنحطاط الذي بلغ حد القاع،فالسؤال الذي يطرح نفسه لماذا تسقون المجتمع كأس الحياة بذلة،ولا تسقونه بالعز كأس الحنظلِ!فربما يأتي الإجابة مختصرة وهو موت الضمير.

صالح مهاجر
[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 1935

خدمات المحتوى


صالح مهاجر
صالح مهاجر

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة