المقالات
السياسة
في ذكراه: عندما فتشوا قلبه ... لم يجدوا غير حزبه ..! ..
في ذكراه: عندما فتشوا قلبه ... لم يجدوا غير حزبه ..! ..
12-28-2017 03:56 PM

نتوه في رحاب النستولوجيا ويطغى الحنين الى الماضي، ونستذكر رصيدنا من حظوظ الدنيا ونتذوق مجددا رشفات من كلمات سكنت القلب دون استئذان .. زفرات، وحسرات احيانا تتصاعد، وسراب حجب الرؤية من واقع كان يمكن تطويعه بعيدا عن التهويل والوهن. ونطوف في سوحه، ظلت أبوابه مفتوحة ليل نهار في المنفى بالقاهرة واسمرا، اما في الوطن، يعز اللقاء إلا اذا كنت في رفقته في كوبر وشالا والرجاف وناقشوط ..أو من تلك الثلة المنتقاة، لتلتقيه في اجتماع خاطف (تحت الأرض) وباسمه الحركي طه ابوزيد، في مخبئة في بيوت أرض الحجر بالديوم الشرقية!(1)
شاغله الصدق، عفيف النفس، صارم في قناعاته، زاهد في ما عند الناس والسلطة والدنيا كلها.. قديس ..لا ..درويش.. لا، مرتاد سجون. نعم .. حبيس زنازين الاعدام ..نعم !
ابتسامة شاحبة على وجهه المعروق الذى لم يحظى بمزعة لحم ومع ذلك وسيم القسمات.. !، واقول له متعمدا مدخلا ناعما لحوار أعرف أنه سيطول وقد أنال منه (ضربة بالكتف) .. فقد ( كنت معهم ولست منهم ) . وعلى يقين بأن الصحفي الذى يحاور صحفيا مثله، يجد نفسه في حال مشابه للذي يأخذ شقيقته للديسكو لترقص معه في الاحتفالات الصاخبة ليلة رأس السنة وعند انطفاء الأنوار !
وأبادره:
كيف تتحمل، في اسمك، ميراث قطبين عظيمين من أعمدة التصوف..التيجانى ..والطيب ود البشير ..!؟
ويجيبني خليك من كلام الدراويش ويفتح علي النار: تسافر يا يحيى في أول وفد سوداني وممثلا لاتحاد الصحفيين إلى جمهورية المانيا الديمقراطية بعد ما اعترفنا بها وكنا في مقدمة الدول الافريقية التي تجرؤ على ذلك، وتعود لتكتب انطباعاتك تحت عناوين بفنط 54(أيام في المانيا الشرقية).. المانيا الديمقراطية، تسميها المانيا الشرقية! ورفيقك في السفر، ممثلا لاتحاد الفنانين كلنا نحبه ونجله كيف يكون محور مقالاتك .. ابو داوود قال (2).. ابو داوود التفت حوله صبايا برلين، ابو داوود عطر ليالينا..ابو داوود معك في السودان قبل وبعد زيارة برلين..متاح لك أن تكتب عنه ما تشاء ولكن تسافر عبر قارات وفي مناسبة تاريخية ليكون أساس مقالاتك ابو داوود !؟.. و يضيف ..بديهي في كل مكان في الدنيا هناك نكات وقفشات يتداولها الناس، ويضحك منها حتى من تسخر منهم.. فكيف تكتب بعد زيارتك للحد الفاصل بين برلين وبرلين الغربية عن تمثال لينين وتردد تلك النكتة الباهتة: التمثال ضخم ومهيب ولكن لم ينحتوا له قدمين خوفا من ان يقفز لبرلين الغربية .. ده كلام يا يحى ...!؟
وتشعر بانزعاج حقيقي يخيفك أمثاله، تأتي لاستجوابه ولكنه يبادرك ويصبح هو المحاور ويحاصرك حتى تتمنى الهروب من مجالسته خوفا أن يكشف المزيد من الخبايا.. (خائنة الأعين وما تخفي الصدور) وخشيت أن يتذكر ما كتبته من طرائف عن ليونيد بريجنيف بعد زيارة للاتحاد السوفيتي وقلت إن والدته القروية زارته في منزل الرئاسة بالكرملين وطاف بها في غرفه الفاخرة واركبها السيارات المخصصة له ثم ذهب بها إلى الداتشا في أعلى الجبال والتي يمضي فيها عطلات نهاية الاسبوع، عندئذ قالت له والدته بإشفاق: ماذا تفعل يا بني اذا استولى الشيوعيون على السلطة!؟
والنكتة السياسية مازالت من أسلحة الشعب الروسي وعندما تسلم الرئيس بوتين الصندوق السري لإطلاق الصواريخ النووية من سلفه بوريس يلستين نبهه الأخير بقوله: كن حذرا، هذا الذر يطلق الصواريخ النووية على بكين، وذلك بوسعه تدمير نيويورك "خرج بوتين وعاد بعد برهة غاضبا ملقيا الصندوق امام يلستين قائلا: إنك تخدعني هذه الأزرار لا تعمل !
-2-
وقت الزنقات لا تسعفني إلا ضحكات سريعة الطلقات، لكنها لا ترقي إلى طلاوة نهنهات عزيزنا السر قدور ..ضحكات مشحونة بالندم والاعتذار ! .. كان الاستاذ التجاني الطيب بالنسبة لنا الضمير النقي الذى تطل منه على عيوبك بكل صدق، مرآة ترى فيها حقيقتك بلا رتوش ومجاملات .. وعندما أصدرت صحيفة (النهار) اليومية بعد الانتفاضة عام 1985، كان من أوائل المهنئين والناصحين، كان يقول لي:حسنا لقد نجحت في إصدار صحيفة يومية مختلفة في شكلها واخراجها، لكن المهم المضمون، الصحيفة المستقلة تتحمل مسؤولية أكبر، لان الحياد والاستقلال لا يعني الوقوف في الوسط بين الحق والباطل .!
-3-
ونتساءل ... عندما تعثر مشروع جيل التيجاني واختارت كوكبة من صميم قيادته، الانسياق وراء إغواءات السلطة وسقطت في شراك المتربصين، في الخارج والداخل بحزبها، ودفع الثمن الأخيار، نصبت لهم المشانق ودراوي الإعدامات. فكيف استطاع حزبه ان يستمر واقفا على قدميه ومحتفظا باسمه وبرامجه وبإصرار رغم الضربات المهولة التي اصابته من كل الاتجاهات؟
وحدة الحزب، كانت دائما صخرة النجاة، ومهما كان الغضب وتجسيد السلبيات والاختيارات غير المقنعة في القيادة أو في أولويات المسار، فلن يجدي الانقسام ولن يقدم حلولا ولن يوقف مسيرة الحزب، وإذا راجعنا صفحات الانقسامات، من موقع المراقبين المحايدين، لم ينجح المنقسمون في تحقيق إنجاز يذكر إلا الندم أو مكابرة فجة، رغم صدق نوايا بعضهم، وتطول القائمة من الأستاذ عوض عبد الرازق إلى يوسف عبد المجيد وأحمد الشامي وأحمد جبريل، والخاتم عدلان، واقفز مستثنيا القائمة المايوية، أحمد سليمان ، معاوية سورج، عمر مصطفي المكي، محمد أحمد سليمان وأخرين ، فقد ساهموا بفعالية في المأزق الذى يعيشه السودان والممتد بين سلسلة الانقلابات العسكرية منذ مايو 1969 ويونيو 1989 وإلى الآن !. وما كنا نحسب أن يأتي بعدهم، سليل دوحة الركابية وخلاويهم بامدرمان، و خاله الأستاذ عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة من جيل مؤسسي وقيادي الحزب وشقيق الرجل الذى يذوب حياء الأديب مصطفي مبارك. كانت خلاوي الركابية ولاتزال ملجأ ومنارة أهل السودان بجميع سحناتهم وطوائفهم، حتى أن الاستاذ سمير جرجس مسعود من قيادات الحزب الشيوعي ومن أقباط السودان، كان ملاذه الوحيد للاختباء من مطاردة البوليس السياسي في خلاوي الركابية ... نسأل الله ان يعيد لصديقنا رشده .. إنهم لا يشبهونه إطلاقا وحتى دفاعه عنهم في الفضائيات تحس أنه من طرف لسانه، حالة من الغيبوبة أو (مكاواة) وليس من قلبه وكامل رشده !
وأشعر بالأسى عندما نفاجأ، بجيل الشباب الواعد الذى ساهم بفعالية وكفاءة في رتق الصفوف في تلك المراحل الحرجة، وتحمل المسؤولية في أقسى الظروف، أن يتبنى مواقف لا تشبهه وتتعارض مع تضحياته التي صقلته في أزمات مايو ويونيو، وأخص بالذكر الصديق الشفيع خضر وحاتم قطان والعقد النضيد من الأطباء :
بروفيسور مصطفى خوجلي، د. أحمد بابكر تلب، د. عبد المنعم الطيب، د. نجيب نجم الدين، د. نعمات خضر، د. أبو ذر محمد علي، د. مأمون علي صالح، د. ربيع الجاك، د. أمجد فريد الطيب، د. مجدي الجزولي، د. مأمون عثمان أحمد نصر، د. مرتضى التهامي، د. هند إبراهيم عبد الرحمن، د. الفاتح عثمان سليمان، د. خالد عثمان طوكر، د. عزة الشفيع ، د. نهلة جعفر، د. محمد الحسن عثمان ود. إسماعيل عز الدين أبو جلابية.
بالطبع هناك من يتململون وينتقدون أداء حزبهم من موقع المسؤولية ، ويأتي موقف الأستاذ كمال الجزولي، باستقالته من المكتب السياسي واللجنة المركزية، تعبيرا عن الأزمة المتصاعدة في الحزب، كما يشكل قرار الأستاذ كمال نموذجا ناضجا لكيفية التعامل في الأزمات المصيرية، وهو موقف كنا نتمنى أن يتبناه كل المغاضبين .. ترك المناصب يجوز.. ترك الحزب ..لا، فهو لا يخضع لملكية أحد .. تراث وانجاز وميراث أجيال ... لذلك تسمو المواقف المبدئية فوق كل الجراحات ..!
-4-
في مراحل الأزمات الكبرى، التي يمر بها السودان وتنظيماته السياسية، قد يكون من الأفضل أن يتصدر المشهد السياسي وقيادته من هم أقل بريقا، وأكثر صلابة وأقدر على المزيد من التضحيات، وهذا لا ينفى انطباق هذه الصفات على الكثيرين. لكن لا ترقى الخلافات الحالية إلى التصعيد وتقديم الاستقالات .. كما لا تشكل القيادة الحالية عوارا، وإنما تجسد المزيد من الاصرار على الصمود والمواجهة. ويكفي أن شيخها وفي الثمانين من عمره، المهندس صديق يوسف، يتنقل كل يوم من سجن لآخر. وفى آخر تصريحات مدير الأمن التهديد بالمزيد من الاجراءات ضده وحزبه ويمتن عليهم بعلانية نشاطهم, لكنهم كما يقول "غير راغبين في الحوار الوطني ولم يشاركوا في الانتخابات الاخيرة " (3)
-5-
التحية لجيل الـتأسيس، من قضى نحبه ومن ينتظر ... ووقفة إجلال وحب للأستاذ التجاني الطيب في الذكرى الخامسة لرحيله، واقتبس من مرافعته امام محكمة الدولة، اكتوبر 1982 ولعلها المرة الأولى والاخيرة التي يتحدث فيها عن مواقفه وقناعاته :
(ظللت مدافعا ومناضلا منذ الصبا الباكر، أي قبل أكثر من أربعين عاما، و الفضل يعود إلى جيلنا العظيم جيل الشباب الذي حمل أعباء نهوض الحركة الوطنية والديمقراطية الحديثة. و إنني اعتز بأنني كنت من المبادرين والمنظمين البارزين لأول مظاهرة بعد 24 و هي مظاهرة طلاب المدارس العليا في مارس 1946، و اعتز بأنني كطالب في مصر أديت نصيبي المتواضع في النضال المشترك مع الشعب المصري الشقيق ضد الاستعمار وحكومات السراي والباشوات ونلت معه نصيبي المتواضع من الاضطهاد باعتقالي سنة و قطع دراستي، واعتز بانني شاركت مع رفاق أعزاء في كل معارك شعبنا من أجل الحرية والتقدم الاجتماعي والديمقراطي، وقمت بدوري المتواضع في بناء الحركة العمالية وتنظيماتها ونقاباتها والحركة الطلابية واتحاداتها، واعتز بأنني في سبيل وطني و شعبي شردت واعتقلت وسجنت و لوحقت وإنني لم أسع إلى مغنم ولم اتملق حاكما ولا ذا سلطة ولم اتخلف عن التزاماتي الوطنية كما اعتز بأنني ما زلت مستعدا لبذل كل تضحية تتطلبها القضية النبيلة التي كرست لها حياتي، قضية حرية الوطن وسيادته تحت رايات الديمقراطية والاشتراكية. و لست أقول هذا بأية نزعة فردية فأنا لا أجد تمام قيمتي وذاتي وهويتي إلا في خضم النضال الذي يقوده شعبنا و قواه الثورية، إلا كمناضل يعبر عن قيم و تطلعات وأهداف ذلك النضال، إلا عبر تاريخ شعبنا ومعاركه الشجاعة التي بذل و يبذل فيها المال والجهد والنفس دون تردد في سبيل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، إنني جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المجيد وهذه القيم والتطلعات النبيلة. إن هدف السلطة من تقديمي لهذه المحاكمة ليس شخصي بالدرجة الأولى وإنما مواصلة مساعيها لمحو التاريخ الذي أمثله والتطلعات التي أعبر عنها.. و لكن هيهات. وشكرا على سعة صدركم)(4)
بعد هذه المرافعة حكمت عليه المحكمة بالسجن عشر سنوات !
التحية لذكراه ولأسرته.. وأمنية ان يكون ما كتبناه مبادرة لتنفيس الهواء الساخن من الصدور ولتوحيد الصفوف مجددا !
+++
-1- ذكريات كتبها د الشفيع خضر
-2-الفنان عبد العزيز محمد داوود
-3-شبكة الشروق 21 ديسمبر 2016
-4- د عبد السلام نور الدين(سودانيز اونلاين) ، الراي العام 1959
[email protected]





تعليقات 1 | إهداء 0 | زيارات 1274

خدمات المحتوى


التعليقات
#1724720 [كك]
0.00/5 (0 صوت)

12-30-2017 03:52 AM
يا ساتر يا رب


يحيى العوض
يحيى العوض

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة