المقالات
السياسة
السببية والأزمة السودانية (1) : تغبيش الوعي
السببية والأزمة السودانية (1) : تغبيش الوعي
12-30-2017 04:56 PM

أهدف من هذا المقال إلى تسليط الضوء على احد جوانب الأزمة السودانية على مستوى الفكر والفعل لتبيان احد أسباب تخلف السودان وعجزه عن مواكبة ركب الحضارة، وإنهاء حالة الانهيار الشامل والخروج من الهوة السحيقة التي نهوي فيها بلا قاع بعدما تجلت قدرة الحكومة في خلق حضيض اشد انحطاطاً كل يوم، مع قدرة فريده على إيجاد اسباب وهمية تقود للعجز والكسل. إن الوصول للاسباب الحقيقية root cause هي مفتاح الحل لأي أزمة، فلو علمنا ان الباعوض يسبب الملاريا سيسهل علينا مكافحته بردم البرك والمياة الراكده ورشها فنقضي على المرض كما فعلت امم كثيرة، لكنا لو قلنا ان الله هو من ابتلانا بالملاريا فسيستحيل علينا رفع البلاء الذي انزله الله مالم يرفعه الله بنفسه، وسنصبح في حالة انتظار لمعجزة لن تأتي – فقد انتهى زمان المعجزات والسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة – في حين ان الله يطلب منا محاسبة بعضنا بأفعالنا، وليس رد افعالنا للارادة الالهية في قوله (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ )، لذلك سأناقش موضوع السببية وان تجاهل مبادئها العلمية اوقعنا في خدعة ووهم كبيرين ، يجعلنا ننسب الانجازات لانفسنا ونعجز عن تكرارها ، كما يجعلنا ننسب الفشل إلى جهة غير بشرية فلا نستطيع الاستفادة من دروس الفشل ولا ننجح مطلقا في إدراك النجاح.
العلية أو السببية هي موضوع فلسفي يعني بالربط بين حدثين متلاحقين ليكون الحدث الأول هو السبب أو العلة واللاحق هو النتيجة، وذلك وفقاً لضوابط منطقية محددة ، فليست هناك نتيجة بلا سبب ، كما أن النتيجة لايمكن أن تسبق السبب في زمن حدوثها، فناخذ مثالا على ذلك فنقول:
- تسبب السحب الأمطار.
التحليل
- أن السحب هي السبب، والأمطار هي النتيجة.
- من المستحيل أن تهطل الأمطار بغير السحب.
- من المستحيل أن توجد الأمطار قبل وجود السحب.
الفائدة : ان معرفة العلاقة السببية بين السحب والأمطار تمكننا من توقع أوقات الغيث فنتخذ التدابير اللازمة للإستفادة منه ، كما ستجعلنا المعرفة قادرين على اتخاذ التدابير الوقائية لتلافي النتائج غير المرغوب فيها عند نزول المطر فنفتح مصارف المياه، ونعيد صيانة اسقف المنازل وهكذا، أما عند جهلنا بالعلاقة السببية أو تجاهلنا لها، فإن المطر سيكون وبالا علينا عند هطوله وعند انقطاعه على السواء ، وهذا يذكرني بقول أحد ولاة الخرطوم حينما غرقت العاصمة في الوحل وتداعت بيوت البسطاء (لقد فاجأنا الخريف) ، وكأن الأصل هو غياب الخريف وأن مجيئه غير محتمل ، فالوالي هنا يتجاهل العلاقة السببية المباشرة بين دوران الأرض حول الشمس ومجيئ فصل الخريف كأمر حتمي ، كما يتجاهل العلاقة السببية بين فصل الخريف وهطول الأمطار، فلا الأرض ستقطع دورتها حول الشمس ، ولا السنة ستتخطى فصل الخريف، لكنها ستظل تباغتهم كل عام ، فهذه أمور تحدث وفقاً لقوانين طبيعية بدقة ولا يمكن إدراكها إلا بإتباع المناهج العلمية الصارمة كما يمكن معرفة موعد حدوثها بصورة دقيقة جداً باستخدام قانون السببية لتفادي المفاجأآت.
ومن نافلة القول أن الظواهر الطبيعية تتكرر بموجب قاعدة أو قانون طبيعي وليس وفق هوى منها يجعلها تحجم عن الحدوث وتظل تتكرر شئنا أم أبينا كلما آن أوان تكرارها وتحققت ظروفه، وبغض النظر عن جهلنا أو إدركنا لقاعدة تكرارها، فالشمس تشرق كل يوم منذ آلاف السنين وستظل تشرق كلما دارت الأرض حول نفسها، وفي كل دورة سنجد شمسنا تشرق ويوماً جديداً ينطلق ،فمن المستحيل أن تكمل الارض دورتها حول نفسها لنجد بأن الشمس أبت أن تشرق اليوم أو أنها أجلت شروقها أو ليس لديها رغبة في الشروق اليوم، كما انها لن تفاجئنا – كما يفعل الخريف – فتشرق ليلاً أو تختفي نهاراً ، كما ان اليوم الجديد سيأتي كلما دارت الأرض حول نفسها وهذه هي سنة الله في الكون لا مبدل لخلق الله، وبهذه القوانين الصارمة يسير هذا الكون بلا توقف وبلا مراعاة لأحد أو لشعب، فيجب علينا التيقن من أن كل دورة للأرض سيأتي معها ليل ونهار وأن الشمس ستظل في مكانها إلى حين دوران الأرض الدقيق فتشرق من جديد. وقد تطورت الأمم بفضل إدراك علماؤها للعلاقات السببية في مجالات العلوم المختلفة ، وتعاملهم مع هذه السببية بمنتهى العلمية والإحترافية، فوضعوا المناهج العلمية الصارمة التي تعينهم على إدراك الأسباب الحقيقية للحدث موضوع الدراسة حتى يتمكنوا من تكراره كلما أرادوا ، أو اتخاذ التدابير اللازمة لتجنب النتائج الكارثية الناجمة عن تكرر ظواهر لا يستطيعون منعها ، فأصبحوا بفضل إدراك العلاقات السببية قادرين على وضع الخطط والبرامج وقادرين على إنجاحها، متحسبين لمعظم الظروف التي قد تحدث فقفزوا بمجتمعاتهم سنوات ضوئية مقارنة بنا لأننا استطعنا أن ننتج لغة تساعد في التجهيل وتنفي العلاقات السببية أو تحيلها إلى قوى وهمية فنقول في لغتنا الدارجة مثلا : الزجاجة أبت تنفتح، الوصف راح لي، المسألة أبت تتحلا، العربية ما اتصلحت، الشارع اصلا ما بينضف، وغير ذلك من تعابير تلقى بالائمة على عاتق الأشياء الموضوعية وتريح قائلها من الاحساس بالفشل بسبب عجزه عن البحث في الأسباب المنطقية لتحقيق النتائج المرادة، كما أن هذه التعابير تضفي حياة وإرادة للأشياء تفوق إرادة البشر، فتصبح لدينا قدرة بالتالي على استيعاب اسباب وهمية وراء تخلفنا ، فنعتقد بأن الجن يمكن ان يسهم في بناء اقتصادنا كما طلب بعضهم، ونتقبل أن حفرة شارع العرضة لا يمكن ان ردمها بشكل نهائي أبدا، وأن البشير سيبقى ما بقيت السماوات والأرض ، وأن الحل غير موجود ، ونخسر بذلك كل التحديات التي نواجهها طالما أن الجمادات عندنا تسير وفق إرادتها الخاصة ولا تخضع لإرادتنا ، ولا تخضع لقوانين العلم – فقط عندنا تتسلط عليها الشياطين.
هل تذكرون قصة الأحمق الذي كان يبحث عن نقوده في شارع مضئ رغم أنه اضاعها في شارع مظلم ؟ لقد توقع ذلك الرجل أن يجدها في الشارع المضي بدلا من ان يتوقع وجودها حيث سقطت، فهو سينفق ساعات في البحث عنها لكنه للاسف لن يحصل على نقوده ، لانه لن توجد نتائج مختلفة طالما أن المقدمات او الاسباب هي نفسها لم تتغير، طالما أنه لم يتوصل للسبب الرئيس فقد أكدت العلوم الطبيعية استحالة الحصول على نتائج مختلفة من نفس المقدمات مهما كررنا التجربة، فلا يمكن أن تنجب اثنى الفأر صرصاراً او ضباً وإن نكحها الف فأر مهما اختلفت مشاربهم وطالت أو قصرت شواربهم ، ولا يمكن لأمرأة أن تنجب كلباً أو قطاً مهما حاولت ، كما أن شجرة النيم لن تثمر مطلقا برتقالاً أو ليموناً فقانون الطبيعة يمنع مثل هذه الفوضى فلا يمكن الحصول على نتائج مختلفة إلا بتغيير الاسباب والمقدمات، حيث أن الله وضع قواعداً للكون تجعله منظماً ودقيقاً ومنضبطا بما يمنع الفوضى نهائياً ،وذلك حتى يتمكن العقل البشري من فهم قوانين الكون والاستفادة منها، فنفهم من ذلك اننا لن نحصل على نتائج مختلفة للتجربة مهما كررناها طالما احتفظنا بذات العناصر وذات الشروط وهذا يلقى الضوء على أحد اسباب فشل الاحزاب السياسية في اسقاط نظام البشير قرابة الثلاثون عاماً ، حيث يتبعون نفس الاساليب ويتعاملون مع نفس الناس ويتوقعون نتائج مختلفة في كل مرة، وهذا هو منتهى الغباء، فلو أردنا نتائج مختلفة ينبغي علينا تغيير عناصر التجربة وتغيير شروطها، أذكر حوار مع احد الاصدقاء حينما كنا نناقش امر المعارضة ، فضربت له مثلا لو انك ظللت تتردد على ذات الطبيب كل يوم ويعطيك نفس الدواء فإلى متى ستظل تتردد عليه وتبتاع (نفس) الدواء؟ ألسنا نبتاع نفس الدواء منذ ثلاثون عاماً ؟ أليست قوى الاجماع وكافة الأحزاب تعلم انها مخترقة ؟ أليس الصادق والميرغني مازالا طامعين في وراثة حكومة الجبهة ، لماذا لا يسعى اليسار إلى وحدة قواه ؟ لماذا لا تعيد احزاب اليمين النظر في برامجها واطروحاتها فتتخلى عن حلم الدولة الدينية البغيض الذي لم يجلب سوى الشقاء ؟ كل هذه الاسئلة وغيرها تؤكد ان احزابنا على اختلاف مشاربها غير علمية وانها تبتغي الوصول إلى نتائج مختلفة لو انها كررت نفس التجربة بنفس العناصر لذلك انفض معظم الناس عنها ، اما اعضائها فتحولوا إلى مجموعة مريدين ، استلب الشيطان شيخهم فضلوا الطريق.
لقد كانت الشعوب من فجر التاريخ تخشى الظواهر التي تعجز عن مجابهتها وتفسيرها ، فتفسرها على انها غضب الآلهة كتعبير على عجز تلك الشعوب عن إدراك السبب العلمي وراء تلك الظواهر، والأن فإن الكثير من الحكومات التي تعجز عن معالجة قضايا شعوبها تقوم بإلغاء السببية المباشرة وترجع كل مظاهر إخفاقاتها إلى المشيئة الالهية، فالغلاء والانهيار الاقتصادي وتردي الخدمات الصحية والتعليمية وغش التجار وفشل المواسم الزراعية بل إن استيلاء المستبدين على السلطة وقتل الناس هو بسبب ذنوب العباد وليس بسبب سوء الإدارة والفساد ونهب المقدرات. إن إتباع قانون السببية ، يجعلنا قادرين على معرفة الظواهر الطبيعية والاجتماعية والتحكم فيها بأكبر قدر من الدقة والافادة منها ، فأكثر ما يعيق العقل عن إدراك العلاقات السببية هو إقحام الله تعالى والجوانب الميتافيزيقية في تحليل الاحداث ، فإرجاع سبب أي حدث إلى إرادة الله تعالى يجعلنا عاجزين عن إدراك القانون المتحكم في الحدث ، فإرادة الله ليست هي السبب بذاته ، فالله تعالى مثلا أوجب قتل الجاني عقاباً له على جريمة القتل ، فالله بذلك لم يجعل ان السبب المباشرة هو الارادة الالهيه ، بل أكد أن السبب المباشر هو الفعل البشري فأوجب له العقاب لنتجنب الفوضى التي يمكن ان تعم العالم إذا الغينا السببية وارجعنا كل ما يحدث للمشيئة الإلهية.
خلاصة القول إن تغيير واقعنا والخروج من وهدة التخلف إلى قمة الحضارة يحتم علينا فهم الاسباب العلمية الحقيقية الكامنة وراء الحدث واستنباط قوانينه للتحكم فيه ومن ثم وضع الخطط والضوابط لانجاز مسيرة التنمية دون أن نتوقع مساعدة الجن المسلم ولا الكافر، فلندع الجن يقومون بتعمير عوالمهم المتخلفة ونستنهض نحن هممنا وعقولنا لتطوير بلادنا وحل مشكلاتها بالعلم والمعرفة بعيدا عن الاوهام وتغبيش الوعي.

[email protected]





تعليقات 1 | إهداء 0 | زيارات 1488

خدمات المحتوى


التعليقات
#1725319 [الزول]
0.00/5 (0 صوت)

12-31-2017 04:42 PM
ما رأيك في السببية التي قال بها قاضي الإستئناف صاحب الرأي الثاني في قضية الطالب عاصم حيث قال إن رابطة السببية واضحة بين فعل المتهم ووفاة الشرطي حيث كان الشرطي كما قال في تمام الصحة والعافية حتى أنه ركب الدفار مع زملائه لملاقاة المظاهرة الطلابية وتوفي بعد المظاهرة بأيام...
1/ هل تعتبر المظاهرة هي سبب وفاة الشرطي؟
2/ هل ركوبه الدفار هو سبب وفاته؟
3/ هل زملاؤه الراكبين معه في الدفار هم سبب وفاته - نيران صديقة وكده؟
4/ هل الضابط قائد القوة هو سبب وفاة الجندي بوضعه في صندوق الدفار؟
5/ هل صندوق الدفار هو سبب وفاته؟
6/ هل الدفار يحمل مواد يمكن أن تكون هي سبب وفاته؟
7/ هل العلاج هو سبب وفاته - الطبيب المعالج أو بيئة المستشفى أو انعدام الدواء المناسب؟
8/ هل الحروق سبب الموت المباشر سببها حريق وقع في المظاهرة؟ مع رؤية الشهود للشيئ الذي أخرجه المتهم من شنطنته ورمى به في اتجاه الدفار؟
9/ هل كان هذا الشيئ مشتعلاً عند إخراجه من الشنطة أم اشتعل في طريقه للدفار أم بعد ارتطامه بالشرطي المرحوم؟
10/ هل يحمل الدفار مع الجنود شيئاً قابلاً للإشتعال عند ارتطام شيء به أو عند نزع فتيل أي بمبانة قبل قذفها من الجنود الذين يملأون الدفار؟
11/ هل الشخص الذي قذف بذلك الشيء غير المعروف بمبانة ولا حجر ؟
12/ هل يمكن أن يكون ذلك الشيء أي شيء إلا زجاجة أو علبة أو قارورة ملتوف بلاستيكية؟ كون الملتوف لا يشتعل من تلقاء نفسه!
13/ وأخيراً السببية بالمنطق الفلسفي: هل لو كان المرحوم لم يتجند شرطي في الحكومة، أو لم يخرج على المظاهرة بأمر الحكومة - أي لو تأمر الحكومة بمجابهة المظاهرة، أو المتهم لم يكن أو كان في المظاهرة هل ما كان المرحوم سيموت بسبب تلك الحروق. أي إذا ثبت أن المتهم لم يكن في المظاهرة ولايوجد متهم آخر هل سيذهب دم الشرطي المرحوم هدر أم ديته على من وظفه وأمره بمجابهة المظاهرة الطلابية - هذا سلمنا بأن الحروق ذاتها وقعت بسبب أو أثناء المظاهرة؟


معتصم مصطفى عباس
معتصم مصطفى عباس

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة