وهم الوطن
01-11-2018 11:53 PM


ظل عبد الكريم الكابلي أيقونة الفن السوداني يتغنى للوطن ويهيم فيه حباً فخُيِّل إليه من ولهه وحبه أن الوطن حقيقة تسعى بين يديه، حتى إذا ما بلغ من الكبر عتياً وأراد أن يُلجِئ ظهره إلى جدار الوطن من غدر لزمن، فلا جدار وجد ولا وطن، وعندما نادي أن يا وطن قد مسني الضر والكبر، فلم يجبه إلا الوهن ومرض السنين، فغادر وهم الوطن بحثاً عن وطن.

عندما قال المرحوم الأديب الطيب صالح، من أين أتى هؤلاء، أحسست حينها أن الأديب ربما أراد أن يقول لنا أن هذا ليس بوطن، هذا الذي ينجب مثل هؤلاء، فبطبيعة الحال لم يغب عن فطنة الأديب أن هؤلاء قد أتوا من بيننا وقد تغذوا من أرضنا وتعلموا بين جدران مدارسنا، وبالقطع قد أتت بهم ظروف لا نعلم إن كانت عادية أم غير عادية، ولكن نعلم جيداً أنهم الآن بيننا يوجعوننا كل يوم ألف مرة.

عندما سأل الصحفي نلسون مانديلا أسطورة التحرر الوطني، هل أنت المسيح ؟ أجابه مانديلا بثبات الأبطال وتواضعهم الجم: أنا لست مسيحاً، إنما أنا فرد عادي أصبح زعيماً نتيجة لظروف غير عادية، فإذا سألنا سؤال الأديب من أين أتى نلسون مانديلا، ترى كيف ستكون الاجابة.

إننا أمة نعيش بلا وطن، نحن نعيش وهم وطن، فلا يوجد وطن على الحقيقة إنما هنالك مشاريع فاشلة لوطن في مخيال بعض الحالمين الذين راودهم حلم أن يكون لهم وطن، فالحكومة والمعارضة يقتتلان من أجل الوطن والحكومة تمزق الوطن باسم الوطن، والمعارضة تقاتل من أجل تقرير مصير الهامش من أجل الوطن وباسم، في غياب تمام لمفهوم مشترك للوطن ناهيك عن هوية الوطن.

نعم مرت بنا بعض الاشراقات الخجولة في تاريخنا الحديث، ولكننا مازلنا في انتظار أن تتجسد فكرة الوطن في شخصية صلبة قوية متماسكة ملهمة يلتف حولها المعارض والموالي، مازلنا في انتظار غاندي ومانديلا ومارتن لوثر كنج حتى نرى الوطن بأم أعيننا في وجوده الموضوعي خارج وعينا وخيالنا.

الوطن ليس تراب وأرض ونخلات وذكريات طفولة ذات ألوان بهيجة ومشاعر نبيلة، وعيد استغلال لما يصبح بعدُ استقلالاً، إنما الوطن عبارة عن مصالح مشتركة بين فئة من الناس تواطأوا وتوافقوا على أن يعيشوا معاً سويا في أرض ما، يتبادلون الجهود والامكانات والملكات، وكل فرد يتنازل عن قدر (معلوم) من حريته لصالح المجموع، بقطع النظر عن موقع الوطن وجمال طبيعته وطول نيله، فقد عمَّر الله البلاد بحب الأوطان، فالكل متيم بحب وطنه.
هذا التواطؤ بين الناس الذي سمي لاحقا بالعقد الاجتماعي هو أساس قيام الدول، يتم تجسيد مفهومه من خلال الخدمات المتبادلة التي ينتفع بها المواطن والوطن معاً والتي في مجملها تشكل بناء الوطن حيث أن مصلحة الفرد ما هي إلا لبنة في بناء مصلحة الوطن الكبير.
هذا الاساس يتم تعضيده وتقوية أواصره بالغناء والشعر ومختلف أنواع الفنون، إضافة إلى ذكريات الطفولة الحقيقية والأسطورية التي يشترك فيها أكبر قدر من الناس حتى تصبح ذاكرة جماعية ناظمة للسلوك الاجتماعي.

كل يوم يمر علينا بلا وطن نموت فيه كمداً وحزنا وشوقاً لك يا وطن، فمتى سنجلس جميعاً لنرسم حدوك يا وطن الجغرافية وحدودك الثقافية والاثنية والدينية والتاريخية حتى نعلم علم اليقين أن هويتنا ليست عربية ولا افريقية إنما هي هوية سودانية تجدها مشخصة عند النوبي والدينكاوي والشلكاوي والنويراوي والفلاتي والبرقاوي والزغاوي والشايقي والجعلي والبجاوي والبقاري وكل من عشنا بينهم وعاشوا بيننا.

من عمق هذا المزاج البديع سينبثق مفهوم الوطن، وسيخرج حينها من يحكمنا وسيكون صادقا في تمثيله لنا لأنه سيمتح كافة قيمه ومبادئه من الوطن الذي سيصبح وجودا موضوعيا خارج خيالنا وأحلامنا ... وحينها فقط لن نعود في حاجة لأن نسأل (من أين أتى هؤلاء؟).......


[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 610

خدمات المحتوى


صديق النعمة الطيب
صديق النعمة الطيب

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة