خلق حواضن شعبية تحمي الديمقراطية
01-22-2018 11:29 PM
من يستقرئ تاريخ السودان السياسي الحديث فلن تعوزه الفطنة والدربة والمعرفة الحصيفة بشؤون السياسة وعلومها، ليعرف أننا ندور في حلقة شيطانية لا يُفلُّ عزمها، فكلما نهضنا من كبوة رُزئنا بأسوأ منها.
خرجنا من الأتراك والاستعباد إلى المهدية، ومن المهدية إلى التعايشية، ومن التعايشية إلى الانجليز، ومن الانجليز إلى المدنيين، ومن المدنيين إلى العسكر، ومن العسكر إلى المدنيين، ومن المدنيين إلى العسكر.. إلخ، في سباق ماراثوني تقطعت معه أنفاس المواطن المغيب تماما عن كل هذه الجلبة التي ما خرج منها طحين قط.
لم تشهد الساحة السودانية فترة استقرار سياسي تنشأ خلالها تقاليد راسخة للحكم الديمقراطي على نحو نضيج وتراكمي، لذلك يتمتع كل طامع أو مستبد بأفضلية نسبية في المنافسة لأن خصومة ظلوا لوقت طويل خارج جو المنافسة وبالتالي يفتقرون القوة واللياقة والرشاقة السياسية المطلوبة للمبارزة، تسربت خلال هذه الفترات في لا شعور المعارضة بعضاً من قيم المستبد، فَوُلدت أجيال وماتت أجيال والمعارضة لم تزل قائمة للأنظمة الشمولية الاستبدادية بطبيعة الحال، وللنظم "الديمقراطية" التي تستبد بها أحزاب السادة والايديولجيا المنحرفة التي كانت يوماً ما معارضة.
حتى أصبحنا شعب معارض رغم أنفه لكل نظام قائم، ليس حباً في المعارضة ولكن لأننا لم نرَ قطُّ سوى أنظمة قمعية تسومنا سوء العذاب، حتى اصبحت كلمة قمع لازمة لا تنفك عن كلمة نظام.
وما ذلك إلا لانعدام الحاضنة الشعبية التي تحمي الديمقراطية ومكتسباتها، ربما يعود هذا الفشل في نشوء هذه الحاضنة لكسل المثقف وشعوره بتفوق السياسي النشط وحظوته، فلا تكاد تجد على سبيل المثال مصطلح (مثقف نشط) ولكن أينما تولي وجهك فثم (سياسي نشط)، لذلك بدلاً من أن يتقدم المثقف الصفوف كان السياسي هو صاحب الكلمة، وكثيراً ما نجد مثقفينا ينتهي بهم الأمر منتحرين في برك السياسة الآسنة، لا لاصلاح السياسة وانما لادراك ما فاتهم من متع الشهرة والمال.
لو أننا، في خطوة استباقية، فكرنا في خلق حاضنة شعبية للديمقراطية التي نحلم بها، قوامها وعي المواطن وإيمانه بحقوقه و واجباته، وبذرنا في وعيه ولا وعيه أن الثورات والتغييرات السياسية الكبرى دوما تعقبها سنين عجاف، ذلك لأن الدول تخرج منهكة تماماً وخزائنها فارغة ومديونياتها لا تكاد تحصى، فربما نمنعه من الخروج والهتاف (ضيعناك وضعنا معاك...وعائد عائد يا...).
فهموم المواطن لا تكاد تلتقي مع هموم السياسي الطموح العَجُول، الذي لا يتورع في حرق المراحل، أضف إلى ذلك تراجع قيمة الحرية جراء الايديولجيات العنيفة التي تفتقر للموارد الفكرية والتي تغذيها السلطة، بمظاهرها الزائفة من دينية ويسارية وحداثوية من ناحية، والموروث الفقهي الذي يوفر الشرعية لكل مستبد، كل ذلك يقف عائق أمام تمكين مبادئ الديمقراطية في نفس المواطن.
فلا مناص من أن نقارب الأزمة من ناحية ثقافية، نفتح عبرها مسارات جديدة لا تقابل المسارات الأخرى ولا تلغيها ولا تذوب ولا تتلاشى فيها، فنحن في حاجة إلى خلق أرضية مشتركة يكون سداها ولحمتها ثقافة شعبية عامة نلتقي فيها جميها، عوام ونخبة ومتعلم وغير متعلم ورجل شارع ورجل مصطبة ودكة ولستك، الكل بصفته المجردة (مواطن)، لتكون منصة صلبة تُكوِّن المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين بدون التدخل في المعتقدات الدينية أو الفكرية.
وتبسيط مفاهيم الحريات وفصل السلطات، حينها فقط ربما يكون في مكنتنا الحلم بوضع يكون فيه السلطان حاكم بأمر المواطن.
صديق النعمة الطيب
[email protected]
|
خدمات المحتوى
|
صديق النعمة الطيب
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|