المقالات
السياسة
في التعليم السياسي في السودان
في التعليم السياسي في السودان
04-17-2018 03:17 AM

(1)

كتعريف إجرائي، نعني بتعبير التعليم السياسي (عضونة الدولة أيديولوجيتها السياسية في الهيكل التعليمي عبر مدخلاته ومخرجاته إضافة إلى كادر بشري يمثل جيوباً مؤدلجة للوصول إلى ناتج يصب في حصادها). وهذا الناتج لا يكون – غالباً – صاباً فيما عليه رعايا الدولة من معتقدات وأعراف وغيرها، لكنه يصب في الذي تريد الدولة الوصول إليه بتدجين الرعايا وكبحهم وتنميط مسار حياتهم لصالح أيديولوجيا الدولة وإعادة تشكيلهم. لكن أخطر ما في الأمر إنزال تلك الأيديولوجيا إلى المحيط المدرسي كي يشب التلاميذ عليها خاصةً في التعليم العام. وفي هذا نجد أن الدين يشكل دائماً ذلك الناتج قائماً على (فهم) أولي الأمرله. ونفعه لهم أنه (الحق) الذي لا دفع له، فعلى الأقل، لا يمكن رفضه في مجتمع مسلم. ودائماً ما نجد أن هناك حراساً للدين يذودون به عن الحاكم، فالخروج عليه – عندهم- حرام وهذا يجعل لولي الأمر طول مكث على كرسي السلطة.

في ظل هذا النظام الأيديولوجي، يبقى كل فعل من قبل أولياء الأمر صواباً، فهم مشروع إقالة عثرة الدولة، ورعاياها الذين هم دائماً على خطأ ينبغي، معه، قيادتهم إلى ثواب الآخرة لا رفاهية الدنيا، فهي زائلة. وتستمد الدولة هنا مشروعيتها وصلاحها باستمرار أولي الأمر أعلاها حكاماً لا يخطئون طالما حكموا الدين الذي فيه حل جميع مشكلات الوطن ورعاياه. ذلك حيث لا وطن، فوطن المسلم دينه.

(2)

كانت اتفاقية البقط قد وقعّت بين النوبيين والعرب المسلمين عام 652م، ونصّت – فيما نصّت- على حق اجتياز العرب بلاد النوبة غير مقيمين، وكان ذلك الحق للنوبيين أيضاً، أن يجتازوا بلاد العرب (مصر والجزيرة العربية) مجتازين غير مقيمين. لكن، من الواضح أن الطرفين لم يلتزما بذلك، فكان أن بقي العرب في بلاد السودان وبقي النوبيين في بلاد العرب (1). لكن العرب لم يدخلوا إلى هذه البلاد بلغة عربية فصحى هي قوام لسان الإنسان العربي كلغة كاملة الثقافة، كان معظهم من قحطان وليس عدنان، وسادت لغات حمير والأنباط على ألسنتهم، واصطدمت تلك اللغات باللغات السائدة هنا، خاصة البجاوية والنوبية وصار هناك هجين لغوي هو الذي كتب به كتاب له أهميته القصوى ككتاب الطبقات. ولم يكن العرب العدنانيون يعدّون لغات جنوب الجزيرة العربية، أي لغات قحطان، في العربية الفصحى (2).

يقول أحد الباحثين، وهو يتحدث عن الثقافة العربية في السودان، (إننا في محاولة تتبع تفاصيل هذه الثقافة منذ أصولها الأولى والتي جاء بها العرب قبل الإسلام، ندرك تماماً أن اللغة العربية التي جاؤوا بها لم تكن هي اللغة الفصيحة المعروفة) (3). نقف هنا عند قوله (التي جاء بها العرب قبل الاسلام) إذ يبدو الأمر هنا أن الاسلام كان ما علّم السودانيين اللغة العربية، فأجادوها. والإسلام قد يحبب المسلم في العربية لكنه لا يعلمها له، فهو ليس منهجا لتعليم اللغة العربية، ونحن نجد الآن آلاف الشباب المسلمين من حافظي ومجودي القران الكريم من دول اسلامية عتيتة كأندونسيا وماليزيا وغيرهما يفدون إلى جامعات العالم العربي لتعلم العربية، ومنها جامعاتنا، ولو كان الإسلام معلماً للغة العربية لكفاهم اسلامهم مؤونة السعي في البلاد.

(3)

من أظهر مظاهر الحراك البشري في السودان أنه كانت هناك هجرتان، أولهما الهجرة بالعلم. وهي أن يهاجرعالم الدين – بمقاييس ما قبل القرن السادس عشر الميلادي- من موضعه حاملا علمه الديني يعلمه الناس في موضع آخر. وكان (علماء) المحس ودنقلا قد هاجروا بالعلم إلى أواسط السودان (4). كان أولهم الشيخ أرباب العقائد، وكان هناك الهجرة للعلم، وهي أن يهاجر عامة الناس لهذا العالم الديني يأخذ العلم عنه. والعلم في الثقافة العربية في السودان القرآن وما تعلق به من علوم. بذلك صار هناك ألسنة مختلفة تتحاور في سنار عاصمة الدولة آنذاك.

استباب أمر الدين، وحركة الاستعراب الواسعة كانا جراء ذلك فيما نرى. وعلى الرغم من تعدد الألسنة في سنار، عاصمة الفونج، بسبب العناصر المهاجرة للعلم، فإن اللغة العربية الهجين (صعدت) عبر معاظلة طويلة المدى من لغة هجين ثم إلى أخلاط العامية ثم إلى النقاء اللغوي الفصيح، في بطء، بعد قيام المدارس النظامية منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً. لكن، في كل الأحوال، نبقى على مسألة أن العرب لم يجيئوا إلى السودان بلغة عربية فصحى جامعة، ويعني ذلك أنه جاؤوا بثقافة مذبذبة منقوصة إذا علمنا أن اللغة هي (ماعون الثقافة) ولا تفكير خارجها، فيما يقول علماء اللغات. ويعني أيضاً أنهم جاؤوا بمستوى ديني ضئيل ليس هو الدين في مثاليته. كيف ذلك؟.

في الدولة السنارية 1821- 1885م التي تعد أول دول عربية في السودان، ويتم الإحتفاء بذلك، لم تكن الدولة ذات هوية دينية واضحة، فقد (لاحظ أحد زائري بلاط سنار في نهاية القرن السابع عشر أن السلطان يوصف بأنه مسلم، ولكن ليس لديه قوانين وشرائع المسلمين) (5) لكن صار التعليم بتلك العربية الهجين في الخلوات (جمع خلوة) وقد قام به طبقة الفقرا الصوفيون وكان التسليك في السلك الصوفي هو المقصود دائماً، يتبع الحوار شيخاً وقد يصعد إلى أن يصير هو ذاته شيخاً. ونحن نجد في ترجمات الشيوخ في كتاب الطبقات، مثلاً، (أن الشيخ فلان درس على وعلى وعلى) وكان هؤلاء الفقرا طبقة يخشاها الحاكم فمنهم من صدع بنصح ولي الأمر، بل وتعنيفه. لكن بروز ما يسمى بعلماء السوء تأخر كثيراً.

الصراع بين الصوفية والفقهاء كان بعد دخول الفقه إلى هذه البلاد، فقد جلب اسماعيل باشا معه ثلاثة من الفقهاء أحدهم مالكي وثانيهم حنفي وثالثهم شافعي. كان ذلك أول اتجاه لدى خليفة المسلمين في الامبراطورية العثمانية لتشكيل الرعايا تشكيلاً آخر. ناب عنه في ذلك محمد علي باشا الذي وطّد لتعليم ديني واسع المدى سيتخطاه ولي الأمر الذي جاء بعده. كما سيأتي.

لقد كان التعليم في الدولة السنارية عند الفقرا اسلامياً صرفاً غايته تعليم القرآن وعلوم الدين المرتبطة به (6) لكن تحول الأمر إلى مجالات أوسع في العهد التركي المصري. فقد كانت سياسة محمد علي باشا (تهدف إلى تشجيع مدارس القرآن بالسودان وفتح مدارس حكومية جديدة لتمده بالمستخدمين الذين يمكن استيعابهم في المجالات الاصلاحية المستحدثة) (7) وكان من الواضح أن العهد التركي المصري قد استهدف بالتعليم أهل السودان بجلبه هؤلاء العلماء. لكن هذا العهد نفسه كان حريصاً على عدم إثارة أهل البلاد دينياً. ويمكن القول هنا أن هذا العهد كان يعتمد في بلادنا على استراتيجيتين: استراتيجية دينية، حافظ بها على ودٍ ما بأهل البلاد، إذ بادر بالظهور بمظهر الحفيظ على ما هم عليه من الدين، واستراتيجية أخرى سياسية شابها الفقه.

العهد المهدوي أنهى النشاط التبشيري الذي أنفذه العهد الذي قبله، ولم يكن هذا العهد المهدوي مؤيدا للنظم التعليمية التي أدخلها العهد التركي. ذلك أن الأولوية لم تكن للتعليم بل للجهاد في سبيل الله. لكن إضطلعت الخلوات بدورها في التربية والتعليم سواء في حياة المهدي أو خلفه الخليفة عبدالله التعايشي. لكن ذلك ارتبط بشرط هو أن لا يتخلف مدرسوها إذا دعا في الناس داعي الجهاد (8). لكن المهدي كان قد أبطل الفقه الذي أخذ مكانه في العهد التركي، وكان ذلك جرأة منه وقد قال فيه قولته المشهورة (هم رجال ونحن رجال)، يعني واضعي الفقه كبشر. ولعله نظر في ذلك إلى ارتباط الفقه بالمكان. وفي سيرة الإمام الشافعي أنه درس على الإمام أبي حنيفة في العراق، وعلى الإمام مالك بالمدينة المنورة، لكنه عندما عاد إلى مصر، كمكان آخر، ورأى ودرس ما عليه الناس، بدّل من فقهه الذي أخذه عن الإمامين. وعلى هذا فإن المهدي عليه السلام كان يرى، كمكان آخر أيضاً، في تنوعه واختلاف ناسه يكفي أهله راتبه الذي إجتمع عليه أنصاره كأوراد. بدلاً عن الفقه الذي ربما رآه أكثر تعقيداً.

في العهد الانجليزي المصري، على الرغم من أن حرية التعليم وعدم التدخل في شؤونه كانت سائدة في بريطانيا العظمى، إلا أن اللورد كرومر كان يرى في التعليم الديني مخاطر، إذ خشي أن يكون الذي يقوم على دراسة القرآن مثيراً للحماس الديني والتعصب (9) وكان ذلك العهد يرى أن يكون التعليم في السودان مهنياً وعلى ذلك وضع جيمس كري (مدير مصلحة المعارف) أهدافاً ثلاثة للتعليم عام 1900م لم تكن تحتوي على تعليم ديني (10) لكنه فيما بعد، رأى وضع يده على الخلوات لهيمنة حكومية عليها، فقد (دفع إعانات مالية لعدد قليل من الخلوات وكانت هذه الإعانة عبارة عن مرتب شهري للفكي معلم الخلوة مما جعل هؤلاء الفكيان يرحبون بإدخال المواد العلمية كالحساب في مقررات الخلوات) (11) وفي كل الأحوال فقد عمل الانجليز على ثبات أهداف التعليم، لكن سنجد – فيما بعد- ما يدعو إلى فك الازدواجية فيه، أي توحيد الاتجاه التعليمي بحيث لا يكون له وجهان، ديني وعلماني، أي دينياً فحسب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش؛

(1): راجع ميرغني ديشاب- الصحابة والتابعون النوبيون- كتاب قيد الطبع.(2): شوقي ضيف- تاريخ الأدب العربي- ص 262.

(3): د. عبده بدوي- الشعر الحديث في السودان- ص44.

(4): ميرغني ديشاب- التاريخ الإسلامي للمحس- مخطوط.

(5): ج. سبولدينق- عصر البطولة في سنار- ص 20.

(6): محمد عمر بشير- تطور التعليم في السودان- ص23.

(7): نفسه ص 43.

(8): د. الناصر عبدالله أبو كروق- حول سياسة الانجليز التعليمية في السودان- مجلة دراسات أفريقية- العدد 21- 1999م.

(9): محمد عمر بشير- مصدر سابق- ص 47.

(10): نفسه- ص 55.

(11): نفسه- ص 65.





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 468

خدمات المحتوى


ميرغني ديشاب
ميرغني ديشاب

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة