المقالات
السياسة
ما بين رؤية النور حمد وطرح السر سيد أحمد.. أنموذج الدولة السودانية الحاضر الغائب (2)
ما بين رؤية النور حمد وطرح السر سيد أحمد.. أنموذج الدولة السودانية الحاضر الغائب (2)
07-14-2018 08:23 AM

مخاض البارادايم الجديد
ما بين رؤية النور حمد وطرح السر سيد أحمد..
أنموذج الدولة السودانية الحاضر الغائب (2)

قدّم المقال السابق قراءة مختصرة للوضع الراهن في البلاد وقيًّم بإيجاز فكرة دخول الانتخابات القادمة كبداية لمخرج من هذا الوضع، كما خلص المقال إلى أن حال الدولة بلغ مبلغا من الحرج يُحتّم الشروع في معالجة فورية وجذرية تقود الى تكوين ملامح "بارادايم" جديد لانتشال الدولة السودانية من وهدتها، كما نادى بذلك د. النور حمد. وفي هذا الجزء الثاني سيحاول المقال التالي أن يلقي بعض الضوء على "بارادايم" أو أنموذج الدولة السودانية الحالي، وماذا نعني به وسنحاول التعرف على العناصر التي ساهمت في تشكيله وتعميق أزمات الدولة السودانية المتطاولة منذ الاستقلال. ولنبدأ أولاً بمحاولة لتوضيح مفهوم "البارادايم".

مفهوم البارادايم
يعد مصطلح "البارادايم" ومصطلح "التحوُّل البارادايمي" من المصطلحات شائعة الاستخدام والتي تستخدم لتوصيف الأطر النظرية المُؤسِّسة لمجال ما، وحالات التغيير الجذري لتلك الأطر المؤسسة بأطر جديدة في مختلف المجالات والعلوم.
يُعرِّف معجم أكسفورد كلمة "البارادايم" على أنها النمط الذي تجري عليه الأشياء أو المثال النموذجي لشيء ما، وقد تأتي الكلمة بمعنى النمط مجرداً أو الأنموذج. ويرجع بداية رواج الاستخدام العلمي المعاصر لمصطلح البارادايم للفيزيائي ومؤرخ العلوم العالم "توماس كون" حيث يعد أول من استعمل مصطلح "التحوُّل البارادايمي" والذي صار من بعد ذلك تعبيراً لغوياً قائما بذاته في اللغة الانجليزية يدل على التحول الجذري في بنية ومفاهيم مجالات العلوم تحديدا ومجمل المجالات الأخرى عموما. ووفق هذا المفهوم يمثل "البارادايم" الإطار النظري المُؤسِّس الذي تُبنى عليه النظريات والفرضيات لمجال أو علم ما، ومن منواله يجري تشكيل الأنماط والنماذج.
وفي الأمر تفصيل كثير لا يتسع المجال هنا لذكره، إذ أننا وددنا فقط أن نوضح المضمون العام لاستخدام هذا المصطلح الذي خرج به د. النور حمد لتوصيف الحال الذي ظلت تسير عليه الدولة السودانية منذ الاستقلال وحتى الآن، ومن هنا فصاعد سنستعيض عن تعبير "البارادايم" بكلمة الأنموذج حيث أنها وإن لم تكن مطابقة تماما للمعنى المقصود ولكنها يمكن أن تفي بالغرض بعد الشرح السابق.

النسج على منوال الأنموذج القديم للدولة السودانية:
يتفق أغلب المؤرخين على أن بداية تشكُّل الدولة السودانية الحديثة يرجع الى فترة الاحتلال الخديوي للسودان، قبل ما يناهز المائتي سنة تقريبا. إذ ظلت بنية الدولة السودانية تتشكل على أنماط مختلفة خلال هذين القرنين، كما تعاقبت على حكم البلاد خلال هذه الفترة العديد من الأنظمة المختلفة الى أن وصلت الى الشكل الحالي. يمكن تقسيم عهد الدولة السودانية الحديثة من ناحية سياسية وتاريخية إلى أربعة فترات رئيسية مختلفة وهي: فترة الاحتلال الخديوي المصري المتعارف عليها باسم التركية السابقة من 1821 الى 1884، تليها فترة الحكم الثوري الوطني الأول في المهدية من 1885 الى 1898، ثم فترة الاستعمار البريطاني المتعارف عليها باسم الحكم الثنائي من 1898 الى 1955، وأخيرا فترة الحكم الوطني الثاني ما بعد الاستقلال والتي امتدت من مطلع العام 1956 وإلى اليوم.
لم ينتهي تأثير الفترات الثلاثة السابقة لفترة ما بعد الاستقلال الحالية بزوال أنظمة تلك الفترات، إذ خلّفت تلك الأنظمة بصماتها المختلفة على بنية الدولة السودانية واحتفظت بآثار متفاوتة لازال بعضها ممتداً إلى اليوم. إن الطابع الذي يجري عليه اليوم أنموذج الدولة السودانية يمتد ببعض جذوره التاريخية الى تلك الفترات التي سبقت الاستقلال ولكننا سنكتفي بالتركيز هنا على مكونات ونمط وآثار الأنموذج الحالي للدولة لفترة ما بعد الاستقلال الحالية، ومن هنا فصاعدا عندما نتحدث عن الدولة السودانية فإننا سنقصد بذلك الدولة الحالية في فترة ما بعد الاستقلال.

أنموذج الدولة السودانية الحالي
أنموذج الدولة السودانية عبارة عن فرضية تقوم على مجموعة من الملاحظات التي تُدلّل على وجود أنموذج، أو نمط سائد للدولة السودانية، ظلت تسير عليه خلال مراحلها المختلفة منذ الاستقلال، فصار طابعا لهذه الدولة متفاعلا ومتراكبا مع كل أنظمتها المتعاقبة. ظل هذا الأنموذج حاضرا أمام أعيننا بمكوناته وأنماطه وفي ذات الوقت ظل غائبا عن وعينا حينما تعمقنا بحثا في تحليل آثاره وأزماته. وللتعرف أكثر على هذا الأنموذج علينا أن نتتبع بعض العناصر الثابتة والأنماط السائدة التي ظلت ملازمة لكل أنظمة الدولة مع اختلافاتها وعلينا أن نتأمل في المنوال الناظم لهذه الأنماط والعناصر كما سنعرض لذلك لاحقا.
وتجدر بنا الإشارة هنا إلى مسألة مهمه ، وهي أن هذا الأنموذج و إن ظل ملازما للدولة السودانية بمختلف أنظمتها التي تعاقبت على الحكم، إلا أنه لم يكن قدرا محتوما على هذه الأنظمة في يوم من الأيام ، بل كان صنيعتها بامتياز، وقد تسنت لها العديد من الفرص لكسر منواله وتغييره ولو تدريجيا، إلا أنها فشلت جميعا في ذلك، وذلك لأن تغيير هذا الأنموذج تطلب دوما ثمنا باهظا لم تُرِد أن تقدمه كل هذه الأنظمة ، تمثل هذا الثمن في تنازل هذه الأنظمة عن السلطة شبه المطلقة التي تجمعت في أيدي نخبها لصالح عامة الشعب وذلك بتقنين هذه السلطة واخضاع مسئوليها للمحاسبة امام مؤسسات النظام الديمقراطي والزام حكوماتها بإقامة دولة المؤسسات والقانون. لقد اختارت هذه الأنظمة ألاّ تستمد شرعية ممارستها السياسية من أحكام القانون والدستور، واختارت بدلا من ذلك ألّا تلتزم بدستور أصلا، وأن تستمَد القانون إما من آيدلوجياتها الدوغمائية أو من أحكامها الجزافية المرتبطة دوما بمتطلباتها الآنية ومصالح نخبها الضيقة. وبذلك تتحمل كل الأنظمة المتعاقبة المسئولية في استدامة هذا الأنموذج البائس للدولة السودانية، وان كان بدرجات متفاوتة فيما بينها، أعلاها مرتبة وبلا منازع النظام الحالي.
إن فرضية أنموذج الدولة السودانية تسعى للإجابة على سؤال جوهري مُلِح وهو لماذا فشلت كل الأنظمة المتعاقبة على حكم السودان على اختلافاتها في إدارة الدولة؟ وما الذي جعل فشل كل نظام أسوأ من سابقه لتدخل الدولة السودانية بذلك في حالة من التدهور والتقهقر المستمر؟ وفي اعتقادي المتواضع أن الإجابة على سؤال كهذا لا يجب أن تحتمل إجابة واحدة أو رأيا قاطعا وذلك لعظم التركة التي خلفتها الأنظمة السودانية بما فيها النظام الحالي، لذلك نَعُدُّ هذه المحاولة فرضية لا أكثر قد تصيب أو تخطئ، وقد تُعضَّد أو تُفنّد، وفي كل ذلك خير إذ إن مع كل رأي جديد أمل جديد في اقترابنا من حل طال انتظاره ليفك عقدة وطن يخصنا كلنا على الشيوع، يملكنا ونملكه، ليس لأحدنا حق فيه دون الآخر وله علينا كلنا دين مستحق. هذا ما وجب توضيحه، ولنا بعد هذا أن نبدأ بإلقاء نظرة عن قرب للتعرف على ماهيَّة هذه الفرضية.

المكونات والأنماط السائدة لأنموذج الدولة السودانية:
كما ذكرنا سابقا، يمثل أنموذج الدولة السودانية النمط السائد للدولة ممثلا في النهج العام الذي تدير به الأنظمة السياسية المختلفة شئون الدولة. يتكون أنموذج الدولة السودانية من ثلاثة عناصر يعضد بعضها بعضا لتكوّن مثلثا شريرا صعب الكسر. فالعنصر الأول المكون للأنموذج يتمثل في الممارسة السياسية العقيمة التي تجنح إليها أنظمة الحكم، وهي أي ممارسة سياسية لا تؤدي الى تحقيق فائدة عامة أو تعمل على إزالة عقبة تعترض تحقيق مصلحة عامة مما يؤدي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى بروز واستفحال الأزمات في الدولة. وهي عكس الممارسة السياسة المثمرة التي توظف الأدوات السياسية المختلفة لصياغة وتنفيذ السياسات العامة التي تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة وتسعى إلى حل الأزمات في الدولة والحد منها. مثال للممارسات السياسية العقيمة، المناورات السياسية، والمكايدات الحزبية، والمفاوضات الماراثونية، والخطاب الأجوف، والجدل البيزنطي مما يكتنف العمل حول القضايا المهمة وغيرها من الممارسات السياسية التي يذخر بها التاريخ السياسي السوداني مما لا فائدة ولا طائل منه.
وتمثل الأزمات السياسية العنصر الثاني المكون للأنموذج، فالأزمات والمشاكل التي تعترض سبيل تنفيذ السياسات العامة، والتي لا يخلو منها أي مجتمع ولا تنتهي من حلها أي دولة والتي قد تنتج عن أسباب مختلفة قد تكون بشرية أو بيئية أو غيرها، لا تزول من تلقاء نفسها إن هي تركت من دون حل، بل لا يزيدها تطاول الزمن إلا تعقيدا وتأزيما فتتحول الأمور العارضة إلى مشاكل مزمنة وتحيل المسائل البسيطة إلى قضايا شائكة ومتشعبة. مثال للأزمات التي تفاقمت بتطاول الأجل عليها، مسألة الدستور الدائم، وهيكل الحكم، وقضية الجنوب، وتوزيع السلطة والثروة ما بين المركز والأقاليم، كيفية ادارة الاقتصاد وتأمين موارد الدولة، وغيرها من القضايا المهمة والتي لم تكن عصية على الحل في وقتها، ولكن اهمالها من دون حل أحالها إلى أزمات مزمنة ومتفاقمة.
من تفاعل العنصرين السابقين مع بعضهما ينتج العنصر الثالث والأخطر وهو النمط المتكرر. فتعدد الممارسات السياسية العقيمة تقود إلى تزايد واستفحال الأزمات في البلاد والتي تؤدي الى زيادة الاحتقان السياسي والذي يدفع بدوره الى انتهاج المزيد من السياسات العقيمة بما يؤدي في النهاية إلى نشوء نمط يعمل بصورة تلقائية وبدفع ذاتي داخلي ليكون حلقة شريرة. يولد هذا النمط حالات الجمود والعجز السياسي وعدم القدرة على ايجاد تسويات ناجحة، ويعزز استدامة هذا النمط داخل كل نظام من تقهقر أداء الدولة في كافة المناحي ويؤدي إلى التدهور العام في أحوال البلاد فيتزايد سقوط المؤشرات الحيوية في الدولة إلى الوصول بها إلى مرحلة الانهيار التام.
ظل هذا الأنموذج ديدنا لكل الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد بغض النظر عن اختلافاتها التنظيمية والأيدلوجية، وظل شغلها الشاغل يتمثل في كيفية المحافظة على كرسي الحكم مهما كلف ذلك من ثمن حتى صارت السلطة غاية في حد ذاتها يفنى في سبيلها كل شيء، فبات ذلك المحرك الرئيسي لأغلب ممارساتها السياسية وانشغلت به عن صنع السياسات العامة المدروسة وتنفيذ المشاريع التنموية ودخلت في دوامة لا تنتهي من التقلبات السياسية. لقد جرب السودان أنظمة حكم مختلفة في هياكلها الإدارية وفلسفاتها السياسية لكنها متشابهة في حصائد تجاربها السياسية، فما الذي جعل تلك الأنظمة المختلفة نظريا تتشابه نتائجها عمليا؟ ربما يكمن السر في طريقة عمل هذه الأنظمة التي وإن بدت مختلفة خارجيا إلا أنها تعمل بنفس الطريقة داخليا وتسترشد في أعمالها بنفس كتاب الحيل والألاعيب السياسية.
أنموذج الدولة ومنوال الدورة الرباعية للأنظمة:
إذا كان أنموذج الدولة السودانية يتمثل في المثلث الشرير المكون من الممارسة العقيمة والأزمة المستفحلة والنمط المتكرر، فإن منوال الدولة السودانية يتمثل في الدائرة المفرغة التي ظلت تدور فيها كل أنظمة الدولة السودانية منذ الاستقلال وإلى الآن. يتمثل منوال الأنظمة في الدورة الرباعية المعروفة لتعاقب الأنظمة المختلفة على السلطة في السودان والتي تبدأ من مرحلة النظام الاستبدادي تليه مرحلة الثورة أو التغيير السياسي، ثم تأتي مرحلة نظام انتقالي مؤقت، تعقبها مرحلة حكم مدني برلماني قصير نسبيا. هذه الدورة المتكونة من أربعة مراحل مختلفة، دائما ما ينتهي بها المطاف عودا على بدأ بوقوع انقلاب عسكري ليدشن مرحلة نظام استبدادي أطول عمرا من سابقة وهكذا دواليك. تكرر اكتمال هذه الدورة ثلاث مرات متتالية منذ استقلال السودان وحتى الآن.
وتماما كما يعمل منوال النسّاج، تعمل كل مرحلة من مراحل الدورة الرباعية لأنظمة الدولة لتعيد إنتاج نفس الأنموذج في كل مرة وعلى نفس النسق مع إضافة خيط جديد في كل مرة في ثوب أزمات الدولة السودانية. ولذلك يمكن تشبيه هذه الدورة الرباعية بدورة نمو الأنموذج لأن أنموذج الدولة السودانية يزداد زخما في كل مرة يعمل فيها منوال الأنظمة هذا.
والأمر المثير للارتباك والسخرية في آن معاً يأتي من المفارقة العجيبة في أن كل مرحلة من مراحل هذه الدورة الرباعية والتي كان ينبغي أن تكون مرحلة جديدة لكسر مثلث الأنموذج ، ينتهي بها الحال لتصبح مرحلة لترسيخه وتقويته أكثر مما سبق، ذلك لأن مراحل التغيير سواء كانت بانتفاضة شعبية أو بانقلاب عسكري ما قامت إلا لكسر هذا الأنموذج الفاسد، أو هكذا قالوا لنا، إلا أنها انتهت بنا دوما في النهاية بالمداواة بالتي كانت هي الداء، وتقوية الأنموذج ، إذ تمثل كل مرحلة من مراحل هذه الدورة الرباعية دفعا جديدا لأنموذج الدولة وتطوره بصورة أقوي من ذي قبل عبر تكريس النمو التراكمي للأزمات المزمنة التي لم تجد نصيبها من الحل في كل مرحلة من مراحله. وعلى الرغم من أن هذه الأزمات المزمنة والمتراكمة هي التي تحفز الانتقال من مرحلة لأخرى، أي أنها تدفع لإجراء التغيير السياسي، إلا أنها لا تثمر حلا حقيقيا يعالج جذور الأزمات، حتى إذا اكتملت دورة نمو الأنموذج عادت الى نقطة البداية مجددا. إذن فالسبب الذي يجعل عملية تغيير الأنظمة السياسية غير قادرة على كسر هذه المنوال العقيم يكمن في وجود مثلث الأنموذج المذكور سابقا داخل كل نظام سياسي جديد.
ولمزيد من التوضيح، يبدأ هذا المنوال بمرحلة النظام الاستبدادي، الذي عادة وكما هو معروف عن هذا النوع من الأنظمة، أنه يولد العديد من المشاكل والأزمات التي تتعمق وتزداد كلما طال بقاؤه، حتى تصل هذه الأزمات ذروتها وتؤدي في النهاية لسقوط النظام ودخوله في مرحلة تغيير إجبارية، غالبا ما تكون عن طريق هبة شعبية كاسحة، لتأتي بحكومة انتقالية مؤقتة. هذه الحكومة الانتقالية عادة ما تأتي قصيرة الأمد، قليلة الحول والحيلة ، فلا تلبث أن تسلم الحكم على عجل لحكومة برلمانية منتخبة، ولنا أن نلاحظ هنا أن الأزمات السابقة ظلت تراوح مكانها من دون حل خلال هذه الفترة بل وقد يتم اضافة بعض الأزمات الجديدة عليها كذلك ، لتتراكم كل الأزمات في انتظار الحل عند الحكومة البرلمانية الجديدة التي لا تصمد طويلا أمام صراعاتها الداخلية العبثية المحمومة التي لا تنتهي إلا بسقوط هذه الحكومة المدنية البرلمانية على يد انقلاب عسكري قبل أن تنهي دورتها الانتخابية الأولى في الغالب. ولنا أن نلاحظ مجددا أن الأزمات التي تولدت خلال هذه الفترة والتي ظلت تتجمع من الفترات السابقة كما يتجمع القيح في الجرح، مازالت من دون حل يذكر وآلت الى نظام استبدادي جديد سيحاول حلهاعن طريق خلق أزمات أكبر وأعقد من سابقاتها. هذه هو منوال الأنظمة السودانية والتي كما ذكرنا تكررت لثلاث مرات على التوالي في تاريخنا القريب، والتي ان تم حل بعض الأزمات خلال بعض مراحله تم اضافة أخرى جديدة أكثر وأعقد وأصعب من سابقاتها فتتوالي المشاكل وتتعقد الأزمات وتستمر سلسلة الضعف والتدهور والتقهقر.
يتكرر نفس المنوال المذكور أعلاه في الدوائر الفرعية في كل مرحلة من المراحل الأربعة لتمثل بذلك دوائر صغيرة فرعية للدائرة الرئيسية الكبرى. فنجد التشابه الذي يصل لحد التطابق أحياناً ما بين أحوال الأنظمة المدنية البرلمانية المتعاقبة، ونفس الشي يكاد ينطبق على الفترات الانتقالية وهلم جرا. وسيتعذر علينا في هذا المقام سرد كل الأنماط السائدة لكل طور من أطوار الدورة الرباعية على حدة، وهي معروفة على كل حال لمن عايشوا تلك الفترات او قرأوا عنها، لذا سنكتفي هنا بإجمال بعض من الأنماط السائدة لها.

أنماط الدورات الصغرى للأنموذج
1- يتميز النمط العام للأنظمة العسكرية في قلة الاستقرار السياسي برغم تشديد قبضة السلطة والصرف اللامحدود على الأجهزة الأمنية والعسكرية، ويتجلى ذلك في كثرة الانقلابات والثورات المضادة لهذه الانظمة والتأرجح ما بين الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية المختلفة وفشل هذه الأنظمة في بناء تنمية مستدامة برغم الفترات الطويلة التي تتاح لها مقارنة بالفترات المدنية.
2- يتميز نمط التغيير الشعبي أو هبات التغيير بأنه أكثر الأنماط راديكالية وقوة بما تستجمع في داخلها من تلاحم شعبي عظيم وبما تحدثه من تغيير جذري إيجابي باقتلاع أنظمة الحكم الاستبدادية. لكن هذه الايجابية والتي لا تأتي بدون كلفة عالية تقدر بسقوط عدد مقدر من الأرواح البريئة، ما تلبث أن تتبخر عندما تبدأ أفواج الانتهازيين بالتقافز فوق جسد الثورة الوليدة للمحاولة للظفر بأكبر قدر من المكاسب السياسية الضيقة لتمزق بذلك اللحمة الشعبية العظيمة التي صنعت التغيير وتُضيِّع أهداف الثورة لتخرج الغالبية العظمى من الشعب خالية الوفاض.
3- يتميز نمط الفترات الانتقالية بالتقزم العام والتقاعس والتقاصر عن الارتفاع لمستوى المسئولية العظيمة مما يؤدي إلى إسقاط ووأد الثورات التي جاءت بهذه الأنظمة وذلك بفشلها في التخلص من أي من تبعات الأنظمة الاستبدادية التي سبقتها، وفشلها في التأسيس لأنظمة ديمقراطية فاعلة ومستدامة فلا تملك إلا أن تسرع بتسليم الحكم كيفما اتفق وبدون أي اضافة حقيقية إلى حكومة برلمانية منتخبة.
4- يتميز نمط الحكومات المدنية البرلمانية بقصر فتراتها واضطراب أحوالها وكثرة جعجعتها من دون طحن وضعف أداء حكوماتها التي ما تلبث أن تقف على أرجلها إلا لتعود للسقوط مجددا وخلال عام واحد في معظم الأوقات وذلك لكثرة ما تعانيه من حمّى المناورات والمؤامرات والصراعات التي لا تنتهي والنزاعات التي لا تتوقف حتى تسقط سقوطها النهائي على يد انقلاب عسكري بدون أن تجد من يدافع عنها.

الآثار المترتبة على أنموذج الدولة السودانية
من كل ما سبق يتضح لنا لماذا لم تستطع الأنظمة السودانية المتعاقبة التصدي للقضايا المُلحّة التي ما قامت الدول إلا لمعالجتها وإدارتها. فلاهي ثبتت نظاما مستقرا للحكم، ولا هي رسخت لعدالة أو حكم قانون، ولا هي حققت تنمية مستدامة، ولا هي أسست وحافظت على وجود أمة متحدة في البلد، ولا هي طورت أو حافظت على أجهزة ذات كفاءة واستقلالية لإدارة شئون الدولة. وكل ذلك من المتطلبات الأساسية من أي دولة تقوم في أي بلد. وغيرها من القضايا التي ظلت تراوح مكانها منذ الاستقلال وغيرها مما استجد مع مضي السنين مما فشل عن التصدي له أنموذج الدولة السودانية الحالي.

ختاما فإن أهمية الفرضية السابقة تكمن في وضع سياق عام ومهم لأزمات الدولة السودانية المزمنة والمتفاقمة، فإننا ان لم نضع هذه الأزمات في سياقها الصحيح وفي إطار شامل لحيثياتها فإننا لن نتمكن من فهمها فهما صحيحا أو حلها حلا جذريا.
في ذات الوقت فإن هذه الفرضية لا تدعي اختزال كل مشاكل السودان في سياقها ولا تدعي امتلاك مفاتيح حل شامل لمشاكل السودان كبلد وكدولة، فهنالك العديد من الأزمات الناتجة عن علل اجتماعية أو أسباب بيئية أو غيرها من الأزمات والمشاكل مما يبرز بحكم مستجدات الواقع والتي قد تعجز الأدوات السياسية وحدها عن تشخيصها وعلاجها.
فالتركيز إذا هنا ينصب على فهم جانب مهم من جوانب أزمة الدولة السودانية والتي تعتبر أزمة تاريخية في المقام الأول لانعدام قدرة أسلافنا على إقامة دولة متماسكة منذ انهيار دولة كوش، وهي كذلك أزمة عميقة ضاربة بجذورها في عمق تناقضات الانسان السوداني وتكوينات المجتمعات السودانية المتباينة، وهي أزمة معقدة لتكونها من عدة عناصر مركبة ومتشابكة تداخل فيها عوامل الثقافة مع الاقتصاد والسياسة وغيرها مما عزز من استعصائها على الحل لفترات متطاولة. فهي بكل ذلك تحتاج إلى الكثير من التفاكر والتحاور والعمل الجماعي القاصد فلا يمكن لفرد مهما بلغ من مقدرات أو لجماعة محصورة مهما بلغت من شأن أن يحيطوا بها دونا عن غيرهم، ولا أن يمتلكوا إلا نذرا يسيرا من فهمها أو يتمكنوا من القيام بجزء محدود من الحل فيها. فلا سبيل إلى أن نصل لتشخيص صحيح متكامل ولا أن نبدأ بعلاج جذري شامل يلم أطراف الأزمة السودانية إلا إذا تحلينا بقيم العمل الجماعي وأنكرنا فيه ذواتنا وأجدنا المهارات اللازمة لذلك والقائمة على توزيع المهام وإجادة الأداء وتنسيق الجهود وتكامل الأهداف والغايات.





تعليقات 1 | إهداء 0 | زيارات 440

خدمات المحتوى


التعليقات
#1790668 [الزول]
0.00/5 (0 صوت)

07-14-2018 03:35 PM
بدزن كلام كثير المحصلة هي أن البراديم حسب المفهوم المعرفي والتعريف القاموسي هو نمط أو نظام أو نسق أو أنموذج قائم أو قام في الماضي وهو بهذا التعريف يكتشف ويوصَّف كما هو ولا يخلق أو يتكهن بقيامه أو يخطَط لإيجاده في المستقبل، وعليه فإن الكلام عن براديم جديد خطأ معرفي epistemological misnomer كان ينبغي على الدكتور النور حمد الترابي ألا يوقع فيه الآخرين..


عمر هاشم
مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة