المقالات
مكتبة كتاب المقالات والأعمدة
بروف/ نبيل حامد حسن بشير
من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (14/15)
من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (14/15)
07-26-2018 05:24 AM

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا في المقالات (13) السابقة ان العلوم الجيولوجية والجغرافية والتاريخ، قديمه وحديثه، ثم العلوم الوراثية والاحياء الجزيئية تستطيع ان تغير المفاهيم المقلوبة والتزييف الذي تعرض له تاريخ العالم ، خاصة تاريخ السودان القديم والحديث الذي نعتبره صاحب اقدم وارقى حضارة بشرية قبل وبعد نوح وطوفانه. ناقشنا في الحلقات السابقة الخطوط العريضة لجيولوجيا وتاريخ النيل ،ونحاول أن نربط ذلك (بتواجد الانسان) بتلك المنطقة في تلك الأزمان اثناء تطور النيل منذ ميلاده حتى نضجه (النيل الحديث). كل تلك الفترات كان (سكان وادي النيل) يقيمون بارض السودان الحالية، ولم يعرف (جغرافيا) حتى ذلك الوقت (ارض) تسمى مصر (هبة النيل)، أو( شعب يسمى بالمصريين !!!!). في الحلقات السابقة تحدثنا عن الأنيال (جمع نيل) الأولى في مصر (6-7 ملايين سنه)، و عن ما قبل النيل ويعرف علميا باسم (البرينيل) والنيل الحديث ونيل العصر الحجري القديم (المبكر)، نيل العصر الحجري القديم المتوسط المتقلب.في هذه الحلقة الحالية نتحدث عن:

نهراً آخر العصر الحجري القديم المتوسط وأول العصر الحجري القديم المتأخر الموسميان:

شهد العصر (الجليدي الأخير) الذي غطت الثلاجات فيه أجزا كبيرة من أوروبا وآسيا عصر (جفاف في أفرقيا).كما شهد هذا العصر وصول (نهرين) من المرتفعات الأثيوبية إلى مصر هما النيونيل (ب) و النيونيل (ج) - كان المصدر المياه الوحيد لهما هو المرتفعات الأثيوبية.

أما منطقة البحيرات الاستوائية فقد شهدت عصراً قلت فيه الأمطار بدرجة كبيرة، كما اجتاحت شمال السودان ومصر فترة جفاف شديد، وبتوقف وصول مياه الهضبة الاستوائية، و اعتماد النهر على مصدر واحد للمياه، أصبح النهر (موسمياً)، خلال فصل الفيضان فقط. وقد حمل النهران معهما (كميات هائلة من الطمي) الذي رسباه على جانبي الوادي في (النوبة وجنوب مصر ) في شكل (مصاطب) عالية مكونة من الطمي الذي تبادلت معه طبقات من الرمال التي جلبتها الرياح (خلال عصر الجفاف) الذي شهدته مصر طوال عمر النهرين. فقد كانت وديان مصر جافة تماماً. فخلت صحاري مصر من السكان الذين كانوا يرومونها وقت أن كانت ممطرة، وهاجر منهم من استطاع إلى جانبي النيل. اختلف عصر الجليد (الأخير) عن العصور الجليدية التي سبقته، حيث كانت الأمطار تصاحبها، فتحول (صحاري مصر) إلى مروج يمكن للإنسان أن يعيش فيها.

كان من آثار العصر الجليدي (الأخير) على منابع النيل الاستوائية قلة سقوط الأمطار عليها. وقد أثبتت الدراسات على بقايا النباتات القديمة التي وجدت في رواسب ذلك العصر في الهضبة الاستوائية أن الأكثر انتشارا هو (الحشائش) بأنواعها مع تقلص الغابات المطرية ، وربما اختفت تماماً، ولم تعد هذه الغابات إلى حالها الذي نعرفه الآن إلا ابتداء من 12500 سنة قبل الآن فقط بعد أن تراجع الجليد ، و بدأت الأشجار تنتشر في الهضبة الاستوائية على حساب الحشائش.

أما عن بحيرتي (فكتوريا وألبرت) فقد كانتا خلال العصر الجليدي الأخير (مقفلتين)، ولم يتصلا بالنيل إلا بعد (نهاية عصر الجليد). إقليم السد كان (جافاً) تقريباً، تقلصت مياهه إلى عدد من (البحيرات شبه المالحة والمتفرقة).

أما عن مجرى (النيل الابيض) جنوب من الخرطوم، كان (مسدوداً) بعدد من كثبان الرمل التي ملأت مجراه، ولم يجود إقليم السد الجاف بالماء الا منذ 12500 سنة مضت عندما زادت الأمطار، و تفتحت البحيرات الاستوائية حتى وصلت مياهها عبر إقليم السد الجاف بكميات كبيرة استطاعت أن تشق طريقها إلى الشمال. وفي الحقيقة فإن النيل الأبيض لم يساهم بأي كمية من المياه للنهرين (الموسمين) اللذين وصلا إلى مصر خلال عصر الجليد الأخير . وفي غير أوقات الفيضان كانت هذه الأنهار (تجف كلية) أو تتقلص كمية المياه فيها فتتحول إلى برك متفرقة – كما يحدث في (نهر عطبرة الحالي).

أما عن الأمطار فوق (الهضبة الأثيوبية) فيبدو أنها لم تنح منحى الهضبة الاستوائية ، إذ يبدو أنها كانت (مطيرة) خلال فترات طويلة وقت العصر الجليدي الأخير. وقد أمكن معرفة هذه الفترات بدراسة تذبذب منسوب بعض البحيرات. لعل أحسن البيانات عن هذه التذبذات هو الذي تم الحصول عليها من بحيرة (آبي) التي تقع في حوض الأواش في أخدود أثيوبيا ومنها يتضح أنه :

كانت هناك (فترة مطيرة) رفعت منسوب البحيرة بين 55 الف و 31 الف سنة قبل الآن (الفترة المسماة بفترة آبي 2)،

(فترة مطيرة) أخرى بين 29 الف و 17 الف سنة قبل الآن (الفترة المسماة آبي 3)،

تلتها فترة (قلت فيها الأمطار) بين سنة 17 الف و 10 الف سنة قبل الآن.

ثم (زادت الأمطار) بعد ذلك في الفترة المسماة (آبي 4) .

هذه البيانات تجعل من السهل ربط نهري مصر بفترتي آبي 2 , 3 المطيرتين ففيهما اندفعت الأنهار الأثيوبية إلى مصر.

ولابد أن كمية المياه التي حملها كل من النهرين الموسمين كانت أقل من تصريف النيل الحديث. كما لابد أن مجاريهما كانا مليئة بالجزر والجسور و لم يجفا تماماً في موسم الفيضان. إذ أتثبت بقايا فرس البحر والماشية التي وجدت بين مخلفات المستوطنات التي سكنها الإنسان بجوار هذه الأنهار أنهما لم ينضبا تماماً من المياه على مدار السنة.

وقد حمل النهران كميات كبيرة جداً من الطمي الذي كوماه في جسور هائلة تظهر الآن على شكل مصاطب على جانبي النيل في جنوب مصر. وقد أمكن تحديد عمر رواسب هذين النهرين باستخدام تأريخ الكربون الذي إستخرج من نفايات مستوطنات الإنسان القديم الذي عاش حولهما.

في وادي الكبانية إلى الشمال من أسوان استكشافات هائلة لطمي هذين النهرين به عدد من المستوطنات التي عاش فيها الإنسان القديم فيما (قبل التاريخ).

كما توجد استكشافات أخرى لهذا الطمي بالصعيد بمصر الحالية توجد على سطوحها عدد من المستوطنات الأخرى.

أمكن تأريخ أعمار هذين النهرين.

أولا: النهر الموسمي القديم (النيونيل ب) ربما إمتد فيما بين 70 الف و 25 الف سنة قبل الآن. العمر الأقدم (70 الف) هو عمر تقديري, ذلك لأن أقدم رواسب هذا النهر هي أقدم من أن تؤرخ باستخدام طريقة الكربون المشع .

أما رواسب هذا النهر في منطقة الكبانية فعمرها يقل قليلاً عن 30 الف سنة قبل الآن.

هناك إلى الشمال في بلدة الشويخات (محافظة قنا) طمي آخر ،ربما كان أحدث رواسب هذا النهر ،قدر عمره 24.7 الف سنة قبل الآن.

ومن الجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن طمي الكبانية وطمي الشويخات يحتويان على مجموعتين مختلفتين من (الأدوات الحجرية) التي صنعها الإنسان الذي عاش فوقهما، إذ تحتوي طبقات طمي الكبانية على أدوات حجرية من (آخر العصر الحجري القديم المتوسط). بينما يحتوي طمي الشويخات على أدوات حجرية تنتمي إلى (العصر الحجري القديم المتأخر).

وتقع رواسب النيونيل (ب) على الارتفاع عدة امتار فوق منسوب النيل الحديث في وادي حلفا ،ثم تقل ارتفاعا كلما إتجهنا إلى الشمال حتى تصل الأقصر وتصبح مطارقة تقريباً لمنسوب النيل الحديث عند نجع حمادي . ولا توجد رواسب لهذا العصر إلى الشمال من ثنية قنا. وقد وجدت رواسب نهرية لها نفس عمر رواسب النيونيل (ب) تحت السطح في بعض الآبار التي حفرت في شمال شرق الدلتا.

ثانيا: يمتد عمر النهر الحديث (النيونيل ج) لثمانية آلاف سنة تقريباً (بين سنة 20 الف و 12 الف قبل الآن)، وتحمل رواسب هذا النهر الكثير من (بقايا الإنسان القديم) التي تنتمي إلى (آخر العصر الحجري القديم المتأخر). لرواسب النيونيل (ج) إمتداد جغرافي واسع. فهي توجد على جانبي النهر حتى مدينة الفشن (على بعد 145 كم جنوب القاهرة). كما أنها توجد بمصبات عدد كبير من الوديان التي تصب في وادي حلفا وأبو سمبل وأسوان وكوم أمبو، مما يدل على أن النهر كان عالياً ووفيراً. تختفي رواسب النهر إلى الشمال من الفشن بصعيد مصر الحالية. وقد وجدت رواسب نهرية لها نفس عمر رواسب النيونيل (ج) في بعض الآبار التي حفرت في شمال وشرق الدلتا تحت السطح وعلى أعماق غير كبيرة. ويصل إرتفاع رواسب نهر النيونيل (ج) إلى أقصى إرتفاع وصله النيل. فهي توجد على إرتفاع 21 م فوق منسوب النيل الحديث في النوبة، و 12م في دراو، وبين 8 -6 م في وادي النيل إلى الشمال.

نظريات وجود الكميات الهائلة من الطمي:

.1) النظرية الأولى، هذه الرواسب لابد من أنها كانت مخزونة داخل بحيرة السد الكبيرة التي كانت تحتل منتصف السودان، ثم انطلقت دفعة واحدة إلى أرض مصر.

2) النظرية الثانية أن هذه الكمية الكبيرة لا يمكن أن تنقل إلا بنهر قوي وقادر.

3) النظرية الثالثة، أن وصول هذه الكميات كان نتيجة (نهر خامل وحامل لرواسب كثيرة). 4) هناك الآن (شبه إجماع) على أن هذه الكمية لابد وأن حملتها أنهار ذات (فيضانات قوية ومتقطعة) كانت تسير على (مناطق عارية دون غطاء نباتي) مما كان يسمح لها بالتقاط كمية كبيرة من الرواسب.

من المؤكد أن كمية (الطمي) هذه قد جاءت من (جبال إثيوبيا) التي تعرضت خلال العصر (الجليدي الأخير) إلى مناخ قارس البرودة (4-8مº) انتشرت الثلوج على قمم الجبال فإنخفض منسوب خط الأشجار بما لا يقل عن 1000 م ، وبذا تعرت قمم الجبال وسفوحها وتعرضت للتعرية. وقد ساعد هذا الحال على زيادة قدرة النهر على حمل الرواسب التي وصلت غزيرة إلى مصر.

ومن الأمور التي تحتاج إلى تفسير وجود رواسب نهري النيونيل (ب) والنيونيل( ج) مكومة في جنوب مصر على مناسيب أعلى من النهر الحديث. هذا على الرغم من أنهما تكونا خلال عصر جليدي كان منسوب البحر فيه أقل من منسوبه الحالي بأكثر من100م. وفي مثل هذه الأوقات كان من المنتظر أن يحفر النهر مجراه، وأن يعمقه لكي يتجاوب مع منسوب البحر, لكن الذي حدث هو أن الرواسب تكونت على مناسيب عالية، وأغلب الظن أن ذلك قد حدث نتيجة (احتجاز الماء) وراء عدد من الحواجز التي كانت تعترض النيل في (منطقتي النوبة وجنوب مصر )وحتى ثنية قنا. في مسار النهر الحديث أماكن كثيرة ضيقة لابد وأنها كانت أكثر ضيقاً في الماضي مما كان يرفع منسوب المياه خلفها. ومن هذه الأجزاء الضيقة جبل السلسلة والعقبة الكبيرة. وكان وجود المياه خلفها ومن هذه العقبات السبب في (إغراق سهل كوم أمبو ومصب وادي الكبانية) الواسع مما جعلهما موقعين متميزين (لسكنى الإنسان القديم). وباستثناء هذا الجزء الجنوبي من وادي النيل، فإن هذين النيلين القديمين كانا يحفران مجراهما إلى الشمال لكي يتجاوبا مع سطح البحر المنخفض .

في الحلقة 15 والأخيرة من هذا الجزء سنتحدث عن النيل الحديث (النيونيل) ان شاء الله.

نبيل حامد حسن بشير
جامعة الجزيرة
25/7/2018م
[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 603

خدمات المحتوى


نبيل حامد حسن بشير
نبيل حامد حسن بشير

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة