ما بين دولة الضّهاري و دوَلٌ أخري... (٢)
08-20-2018 10:16 AM
بين دولة الضّهارِي ودُوَلٌ اخري ... (2)
في معرض المقال السابق تعرضنا لفرضية اهتراء نسيج وتفكّك مكونات الدولة السودانية المختلفة واتجاهها نحو التصادم تحت تأثير قوة الدفع السالبة لسوء الادارة المزمن، والممتد للثلاثين عاما الماضية، وهو ما بينّا انه أحد معايير قياس فشل الدُولْ عبر التاريخ.
كما وفي ضوء جدلية السلطة والتمدن/العمران، أوضحنا عبر مدخل مختصر لنظرية ابن خلدون في العمران – والتي اتخذناها مرجعا لكونها متّسقة شكليا مع ما يتبناه نظام الإنقاذ من رصيد ثقافي، والمتمظهر في ادّعائه حمل لواء الأسلمة والتأصيل – اوضحنا بذلك ان عزلة النخبة الحاكمة وانفصالها عن الواقع هو أحد مؤشرات خراب العمران/انهيار الدولة الحتمي يمهد ذلك اتخاذها - أي النخبة - الظلم والاستبداد واحتكار الثروة منهجا مؤسسيا يصبح مع رسوخه سمة عضوية لا فكاك له منها.
وما سأحاول القيام به هنا بصورة مبسطة، مستخدما أدواتي المحدودة، هو توصيف أوّلي لطرفي النقيض في هذه المعادلة /الفرضية، وهما دولة الضّهاري أو (هامش الهامش) ودولة المشروع الحضاري (أي النخبة الحاكمة) وتوضيح مدي تداخلهما وتفاعلهما معا، علّ ذلك يساهم في رؤية الأزمة السودانية المستفحلة من زاوية لم تطرق كثيرا، متمنيا أن يصبح ذلك حافزا لآخرين للغوص أعمق في التشريح والتحليل في هذا الاتجاه.
ربما صادفك السيناريو التالي أكثر من مرة عزيزي القارئ:
احدى شارات المرور في تقاطع ما لطريقين رئيسيين، وعند خروج سيارات المصلّين المظلّلة الفارهة بعد صلاة الجمعة من مسجد محروس بالجنود، عُرف انه قبلة النخبة الحاكمة.. يمدّ الشيخ الورع عبر الزجاج المفتوح بالكاد سنتمترات معدودة، قليل من المال وكثير من عبق العطر الباريسي المحمول على نسمات الهواء البارد للتكييف، ولجزء من الثانية تمس يد المحسن ذو الوجه المتوضئ طرف اصابع الصبي المتسوّل ذو الاثني عشر ربيعا، العجفاء المغبرّة.
قد تظن للوهلة الأولي ان لا شيء يجمع بينهما غير إيماءة الإحسان المصطنعة تلك، وتلامس الاصابع للحظة خاطفة، والذي في غالب الأحوال سيؤدي لامتعاض الشيخ والإسراع في غسل يديه بأفضل انواع المطهرات ما ان يدلف إلى الڤيللا المخصصة لإحدى زوجاته الميمونات الثلاث أو الأربع، لكنك مخطئ تماما..
ما يدعوا للتأمل و الحيرة هو أنه إذا ما رجعنا القهقري بضع عشرات من السنين وأسقطنا الواقع الحالي على ذاك الزمان الغضّ، لتوصلنا بيسر كبير الي المحصلة القائلة ان مصير الشيخ ذي الوجه النضير كان سيكون مطابقا تماما لمصير الصبي المتسوّل غائر الوجنات ذاك، و الأمر ابسط مما نتخيل، فالمرجح ان هذا الشيخ – العضو الأصيل في النخبة الحاكمة – و كغالب من شكلوا العمود الفقري للحركة الإسلاموية، مثلهم مثل الصبي المسكين ساكن شارة مرور تقاطع شارع الستّين، ترجع أصوله لعائلة بسيطة تسكن قرية مجهولة ما من قري الريف السوداني العديدة، حيث بالكاد تسد بعض الزراعة و تربية الأغنام رمقها، أي أنه في الأصل من ساكني الضهاري المذكورة آنفا.
لكن الفرق الكبير يكمن في مدي فعالية الدولة الآن وحينذاك. فقد أورثتنا الإدارة البريطانية هياكل لدولة مدنية، كانت في الأصل امتدادا طبيعيا لنظام الحكم المستعمِر. أي انها مصممة لتيسير إدارة المستعمرة بأقل التكاليف الممكنة وأقل عدد من الموظفين البريطانيين. إلا انها رغم ذلك شكلت نواة للتطوير. نجحت خلاله الحكومات السودانية ما قبل (الإنقاذ)، نسبيا وبدرجات متفاوتة، في مد يد الدولة الرافعة وظلها الوظيفي لعديد من مناطق الهامش (جنوب السودان وبعض المناطق الأخرى استثناءً)، في كل ما يلي خدمات التعليم والصحة وتطوير المشروعات الزراعية والصناعية، وحتى إداريا، عبر الاستمرار في بناء الإدارات الأهلية ومدها ببعض صلاحيات الحكم والقضاء التي كانت قد بدأت في التبلور منذ تقرير ملنر لعام 1920، ووصلت ذروة تطويرها خلال الاستعمار بإقرار قانون الحكم المحلي لعام 1951.
فتوفرت للشيخ الورع، بعد العناية الإلهية طبعا، فرصة الارتقاء في السلم الاجتماعي عبر مجانية العلاج والتعليم، والانتشار الجغرافي المعقول لمؤسساتها المعنية، والأهم من ذلك توافر الأمن في غالب اصقاع السودان البعيدة. فشرع الشيخ، متسلحا بقدرات ذهنية جيدة في التمرّغ في نعيم الدولة، يعتاش في داخليات مدارسها، بعيدا عن شارات المرور، خلال العام الدراسي ويقفل راجعا معززا ومكرما، مجانا أيضا، الي قريته مساهما ما استطاع، في الزراعة والرعي مع أهله خلال العطلة الصيفية.. حتى ينتهي به المطاف (الكلاسيكي) طالبا مجيدا بجامعة الخرطوم، ثم مبتعثا من قبل الدولة أيضا لنيل شهادات عليا في بلاد تموت من البرد حيتانها، كما قال الأديب الكبير الطيب صالح.
بينما الصبي ساكن شارة المرور، في الغالب هو آت من قرية مجاورة لقرية الشيخ، لكنها لم تعد قائمة بعد ان غار عليها وكلاء السلطة المدجّجين بالسلاح، أو لنكن اقل مأساوية، ربما من قرية اصبحت شبحا، رحل عنها قاطنوها بعد أن أضحت كلفة مدخلات الزراعة البعيدة عن متناول يد البسطاء، أعلي من قيمتها السوقية، وأصبح إيجاد العنقاء والخل الوفي أيسر من إيجاد مشفي مؤهل في مكان لا يبعد مئات الأميال. و الأدهى الانتقال لأقرب ما تبقي من مدارس صار ممّا لا يطيقه جلَد الأبطال الأشاوس. فإن حنّ عليه النهر ولم يبتلعه، هو واخوانه بغتةً كسيد احمد وريم في المناصير، انهار على راسه حائط الفصل سيء البناء كأبرار وزميلاتها في أمبدة. ولو كتبت له النجاة من كل ذلك، كان التحصيل صفرا لنقص في المعلمين والكتب. جراح فوق جراح يعمّقها جوعٌ كافر، يعلو صوته علي صوت الدّرس الذي أعد منهاجه (التأصيلي أو بالأصح الاستئصالي) كيفما اتفق. فوجبة الفطور أضحت في زمان المشروع الحضاري وفي بلد تشق أنهار مياهه العذبة ملايين الافدنة الصالحة للزراعة، امتيازا.
يتبع ...
صحيفة أخبار الوطن
[email protected]
|
خدمات المحتوى
|
مهدي رابح
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|