المقالات
السياسة
خاطرة امدرمانية... المولد
خاطرة امدرمانية... المولد
11-11-2018 06:30 AM




المولد كان من اجمل ايام امدرمان . ونحن صغر كنا نأتي من زريبة الكاشف المحصورة بين الهجرة والركابية او الحارة 1 ... 9 . وكنا نعاير الهلالاب بهذا الرقم الكتوب علىبعض المباني لتسهيل عملية التعداد الاول 1956 . وهذه نتيجة هزيمة الهلال بواسطة فريق الهونفيد المجري بزعامة الاسطورة بوشكاس وزميله بوجيك . وكان من يقوم بتلك المكاواة هو اخي محمد دوكة الذي اشتهر فيما بعد بأكبر ظرفاء امدرمان . مجوعتنا تتكون من الصبي المهذب وجارنا عبر الحائط عبد الله دواي شقيق عبده الحلاق في صالون عنبر في المحطة الوسطي . وكان صديقا لجعقر نميري في زمن معاناة جعفر عندما طرد من الجيس لما يقارب السنتين .

من الزملاء قريب الله كاوروا ابن العم كاوروا شيخ الدباغين في حفر الدباغة . وكنا نذهب بطريقة راتبة الي سينما العرضة البعيدة لان الدخول بقرشين فقط بدلا من ثلاثة ونصف قرش . ولكن نشاطنا الاكبر في ايام المولد . وقديما كان يسمح للنساء بالتواجد في المولد ز وكان بعض الاطفال الاشقياء يشبكون توب النساء مع جلابية رجل في الزحام بالدبوس .

ابو طالب اخ محمد دوكة الاكبر كان وقتها شابا ومن مشاهير امدرمان لانه مكشكش وتحبه كل امدرمان ويركب التاكسي والترام ولا يدفع . وفي يوم من الايام قبض على بكارة الترام التي توصل الكهرباء للمحرك في المحطة الوسطي ورفض تركها الا بعد حصوله حق الفطور واعطاه الكمساري حق الفطور . ومن الاشياء المؤلمة موته بعد ان صعقه التيار الكهربائي عندما تسلق صاري المولد . وتذكرني هذه الحادثة بتقمص مهنة الكهربائي في المولد في آخر ايامي في اندرمان قبل ان اغادرها لاوربا .

اقتباس

خاطرة أم درمانية – مطرة المولد .. بقلم: شوقي بدري

في أيام المولد الماضي تذكرت هذه الخاطرة ولكن لم يكن هناك متسع للكتابة . عام 1964 هطلت مطرة قوية في الايام الاخيرة في المولد . وكان بعض بائعات الهوي في أم درمان عندما يمر الناس بمنازلهن دون توقف يقولن : هي يا البتسو السوتو المطرة في المولد .
وبما أن المطرة كانت في المساء ففي الصباح كانت الطرقات مليئة بماء الامطار وبينما انا حاملا حقيبة ادوات من شاكوش ومنشار ومفكات ناداني احد شيوخ الطرق الصوفية واظنه من القادرية وخيمتهم في الركن الجنوبي الغربي في المولد . وأنا كنت في طريقي إلي اللالوبة الكبيرة خارج المولد وعلي بعد امتار من المدخل الجنوبي الشرقي لجامع الخليفة . وتحت تلك الشجرة كان نادي التربية البدنية الذي كان امام بوابة عبد القيوم قد اقام سوقا خيريا تحت شجرة اللالوب . وقمت انا بصنع الترابيز العالية التي كان يمارس فيها "اللبس تكسب" والمشمع وهو عبارة عن مربعات ابيض واسود يقذف الانسان بالقرش او التعريفة واذا كانت قطعةالعملة داخل المربع بالظبط يكسب الانسان خمسة اضعاف وهنالك "نوامة" او دوارة . وهي مربع من الزجاج بستة اقسام هلال مريخ موردة بيل اهلي تحرير وظهر يدور . وكنت وقتها في طريقي لإصلاح احد الترابيز التي انهارت اثر هروع الناس للخروج من المولد هربا من الامطار.
الشيخ الصوفي أحبط عندما قلت له بأنني لست بكهربائي فطلب مني أن أحاول مساعدتهم لأن كل الأسطوات مشغولين بالخيم الأخري . وكانت عندي فكرة عن الكهرباء فقد كاني صديقي الحبيب متعه الله بالصحة عثمان ناصر بلال ميكانيكيا ويجيد عدة مهن منها توصيلات الكهرباء والمواسير . وتعلمت علي يده النجارة وكنت أقوم بالكثير من أعمال النجارة وكانت عندي عدة نجارة كاملة.
ومن منشئاتي كشك المرطبات الذي كان في شارع الأربعين في تقاطع شارع مرفعين الفقرا .
من أول نظرة كان واضحا لي أن الأمطار هي سبب العطل فقد كان توصيل اللمبات عن طريق الدبوس . وهذه طريقة دفن الليل اب كراعا مارقة . فبدلا عن تعرية السلك وتوصيل سلكين قصيرين سالب وموجب تتدلي منهما اللمبة اكتفوا بغرس دبوس في الخط الرئيسي وقاموا بلف الأسلاك المتدلية حول الدبوس . ومع الرطوبة والماء حصل التماس "شورط" . ولاحظت أن الكهربائي صديقي والرجل الفيلسوف عوض حمد يعمل في احد الخيم الكبيرة فهرعت إاليه . فنصحني بفصل الأسلاك التي فيها سخانة لأن هذا يعني أن هنالك إلتماس . واعطاني شريط كهرباء .
وحتى بعد نصيحة عوض حمد لم تنجح العملية فأتي بنفسه ولاحظ أن اللمبات مختلطة بعضها "زمبة" وبعضها "قلوظ" فطلب مني فصلهم الزمبة براهم والقلوظ براهم وأن أقوم بعملية تجفيف اللمبات من الرطوبة . .
عوض حمد كان كهربائيا ماهرا وكان يسكن فريق حمد وهو الحي جنوب ميدان الربيع وغرب فريق جبر الله ، وكان نحيف الجسم وكان شخصا مؤثرا في محيطه ومجتمعه يحترمه الجميع . قدم لي في احدي المرات نصيحة . ونصيحته كانت : في بعض الناس المعاملة الكويسة ما بتنفع معاهم والأدب بيعتبر عندهم ضعف . وأبدا ما تقول الزول ده أضعف مني وما أرفع عليه يدي ، في ناس ما بتجي إلا بالكف .
أخونا فلان ده مش بيتهم فيه كل شي كعب لكن زول بيقدر يرفع عينو مافي لأنو أيدو واصلة ، في ناس ما بينفع معاها إلا العين الحمرة .
كان رجلا ساخرا . وكان يردد كثيرا عندما يقابل الناس عندما يري شخصا تعبانا أو يحتاج أن يردد له الكلام فيقول : إنت مالك يا أخي ؟ فاطر فول ؟ .
عندما قلت له في أحدي الأيام ،عوض يا أخي ما كل السودانيين بيفطروا فول . ضحك وقال : أهي دي المشكلة .
بعد عدة زيارات ماكوكية اشتغلت زينة الخيمة فشكرني الشيخ الصوفي ووصفني بالأسطي فقال عوض حمد : أسطي شنو يا أخي ده ما ود ناس بدري وأشار لتمثال بابكر بدري الذي كان في شارع الموردة . فاستغرب الشيخ وقال : إنت يا ولدي أهلك ديل علموا الناس ديل كلهم انت يا ولدي ما علموك ليه ؟ شايل عدتك وحايم ؟ فقال عوض حمد : ما علموه كيف ! علموه وأسه كمان ماشي أوروبا يدرس . وعندما لاحظ عوض حمد نظرة الشيخ الصوفي المستغربة قال : لكن طالقنوا يضايق الناس في شغلهم يوم نجار ويوم كهربجي . فقام الشيخ بالدعاء لي بالنجاح والتوفيق في رحلتي .
كثيرا ما فكرت في عوض حمد . كان فيلسوفا أمدرمانيا . تعلمت منه الكثير . أحد دروسه أنه عندما كان يجالسني في قهوة مهدي حامد في سوق الموية لاحظت لطشة كهرباء تركت أثرا ظاهرا علي الزردية فسألته فعرفت أنه قد سأل أحد زملائه عدة مرات فصلت الكهرباء والرد كان أيوة يا أخي فصلت الكهرباء . وعوض كان يقول لي ما تكضب الناس لكن اعتمد علي نفسك . لو صدقت كلام الراجل ومديت يدي كان أكون الليلة في حمد النيل "مقابر" .
وهذا الدرس من عوض حمد تذكرته كثيرا ولهذا يندر أن أكلف أي إنسان حتى أبنائي بأي شي وأفضل أن أقف علي الأمور بنفسي ، وأتذكر زردية عوض حمد المكسية بالبلاستيك الأحمر وأثر سلك الكهرباء علي فمها .
لك التحية عزيزي وأخي عوض حمد فقد كنت فيلسوفا أمدرمانيا عظيما ولك الرحمة إن كنت قد تركت هذا العالم .
التحية

ع . س .شوقي
[email protected]





تعليقات 1 | إهداء 0 | زيارات 609

خدمات المحتوى


التعليقات
#1806248 [زرديه]
0.00/5 (0 صوت)

11-14-2018 08:17 PM
تسلم استاذنا الجليل بدري ... انا مش ام درماني بل اقليمي ولكن كتاباتك الشيقه عن هذه المدينه العجيبه الغامضه المرحه الجميله في ذلك الزمان الجميل - احس بطريق او باخر كانها تعبر عن شيء يخصني - انك يا سيدي تنقلنا بكتابتك عن هذه المدينه من الزمان والمكان الحاليين الى زمان ومكان آخرين يثيران في النفس خليط عجيب من الاحاسيس والمشاعر ... تسلم استاذنا بدري ....


شوقي بدري
شوقي بدري

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة