بين دولة الضّهارِي ودُوَلٌ اخري …4
11-19-2018 11:32 PM
في المقال الأول من هذه السلسلة, التي انقطعت لظروف خارجة عن الإرادة, أوجزت تعريف الضهاري لغويا بصورة أراها مخلّة لذا سأبدأ هنا بإضافات رفدني بها بعض الأصدقاء الأعزاء, ثم اسهب بعد ذلك في التّعرف علي دولة الضهاري التي اقصد.
يذكر البروفيسور عون الشريف قاسم في سفره القيّم ( قاموس اللهجة العامية السودانية) التالي:
الضهرة هي الخلاء والوديان البعيدة عن العمران, يقال ضهرة ود مدني – و الضّاهر كما في القاموس هو الوادي. الضهرة (س) الأعالي التي ينصب منها السيل, قال الشاعر ود شوراني :
دايرين نزلة الضّهرة البدلّي السيل ..
لكن ما يهمنا حقا خلال هذه المقالات المتواضعة بجانب تعرية التناقض الحاد بين ادعاء الفضيلة و ما قامت به المنظومة المتسلطة الحاكمة فعليا, متسلحة بفاقد اخلاقي غير مسبوق, هو بيان مدى عمق الظلم الاجتماعي الناتج بين مكونات المجتمع السوداني المختلفة, حتي أضحت تعيش في عالمين او دولتين منفصلتين و مختلفتين تماما رغم تواجدهما في نفس الزمان و المكان.يفصل بينهما بحر هائج و متلاطم، عالم دولة المشروع (الحضاري) في ضفة و عالم دولة الضهاري في الضفة الاخري.
تبقّي لنا هنا ان نحاول وصف هذا العالم هذه المرة مبتعدين عن السرديات رغم انني اردتها واقعية بقدر الإمكان لكن, و رغما عن ذلك فانها قد تسبب بعض الإرباك و الضبابية في الفهم, و مقتربين أكثر, هذه المرة, من التعريف الأكثر تفصيلا تقنيا.
يجمع عالم الضهاري بمختلف تجلياته الحضرية و الريفية , و بلا جدال ,عامل مشترك و هو الفقر البشري و الحرمان, و اذا استخدمنا المنظور المتقدم و المستنير للمفكر الكبير و ناقد الرأسمالية الأخلاقي, البروفسير امارتيا سن، الحائز علي جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية للعام 1998 و احد أعمدة الفكر التنموي الحديث, للفقر البشري و الحرمان , نجده يضعه في منظور اشمل و أوسع من منظور المدارس الكلاسيكية او الماركسية او دولة الرفاه , بحيث يعرفه كالتالي :
“الفقر هو انعدام الفرص والخيارات و هو فقدان المقدرات الإنسانية الأساسية”, كما ذكره بتفصيل في كتابه التنمية حرية ( Development As Freedom ).
حيث يعرف المقدرة الإنسانية، بانها مزيج من الحالات والأفعال الناتجة عن توفر الحريات الموضوعية ، و التي يعرفها بدورها على أنها فرص الحياة المتاحة أمام شخص ما، والتي يمكن أن يختار من بينها دون قيد. نذكر منها كأمثلة ( ان يعمّر طويلا و ان يتمكن من القراءة والكتابة و الحساب و بالتالي المشاركة الفاعلة في المجتمع وفي الحوار المجتمعي و الحراك السياسي , و ان يتمتع بمستوى تغذية جيد و أن يتجنب الأمراض القاتلة والفتاكة و أن يحصل على عمل مثمر و أن يحيا حياة كريمة (لها معنى) ويكون عنصراً فعالاً في المجتمع ويكسب احترام الجميع).
كما يضيف في الجانب الأخر لمظاهر الحريات التي يؤدي فقدانها الي الفقر, الحرمان من الحريات السياسية و الحقوق المدنية, حيث يفنّد و بنهج علمي دقيق ,خطل الزعم القائل ان الحريات المذكورة قد تبطئ عمليات النمو الاقتصادي , كما و يذكر حقيقة تاريخية مثبتة، أدهشتني كوني لست متخصصا في هذا المجال, و هي ان المجاعات تحدث حصريا في الدول التي تخضع لسلطات قمعية , قائلا ” البلدين الذين يقودان , فيما يبدو, تحالف المجاعة في العالم هما كوريا الشمالية و السودان و كلاهما مثال ناصع للحكم الديكتاتوري”. و ان الدول التي تتمتع بالحرية السياسية، و مهما بلغ بها الفقر مبلغا، تنجح في تجنب هذه الكارثة.
عودا علي بدء و بهذا الفهم لاهادف التنمية كمكافحة للفقر ، فان احد مرتكزاتها الأساسية هي التنمية البشرية، أي تعزيز القدرات الإنسانية من خلال زيادة الاستثمار في رأس المال البشري، مثل الصحة والتعليم والعمل المنتج ، كونها أهم عناصر القدرة الإنسانية.
وقد اعتبر “سن” إن القدرات الإنسانية لا تقبل النسبية، بينما الحاجة إلى السلع والخدمات تعتبر نسبية. لذلك يجب أن لا يعرف او يقاس الفقر من خلال حجم استهلاك السلع والخدمات فقط او مستوي الدخل ، وإنما باستخدام خليط من قياس المؤشرات المختلفة للقدرات, تُعطي أوزانا تبعا لخصوصية الحالة المراد دراستها و اهداف الدراسة ..الخ.
و سأسهب قليلا في شرح فكرته المركزية لأهميتها في السياق الأوسع لفهم ما نمر به من تدهور مريع و حال مأساوي، قارب جدا مستوي المجاعة ان لم يصلها بالغعل, و ربما أيضا لتلمس شكل افاق الحلول الممكنة و المطلوبة, و تتلخص – أي الفكرة- في أن الحرية مطلوبة لتحقيق التنمية لأنها بجانب أنها غاية في ذاتها, أي بمعناها كقيمة جوهرية, ألا أنها الوسيلة أيضا لتحقيق هذه الغاية , حيث يمكن أن نجد تكثيفا لهذه الفكرة في المقولة التالية المذكورة في عين الكتاب :
” تستلزم التنمية إزالة جميع المصادر الرئيسية لافتقاد الحريات, الفقر و الطغيان و شح الفرص الاقتصادية, و كذا الحرمان الاجتماعي المنظّم, و إهمال المرافق العامة, بالإضافة لعدم التسامح و غلو الحكومات المستبدة في القمع.”
يبقي الأشكال الفني الكبير الذي يواجه تبني مقاييس مؤشر القدرات كمعيار للفقر هو الحاجة إلي معلومات إحصائية شاملة، مفصلة و دقيقة, و هو ما لا تملك سلطة دولتنا الحالية لا الإمكانات و لا الإرادة الحقيقية لتنفيذه , لكن و في حال حدثت معجزة ما و قررت حكومتنا العتيدة ان تقوم بهكذا جهد , بالأخص لو استصحبت نوعية خدمات التعليم ذات المنهج التجهيلي و نوعية مرافق العلاج المتداعية (الفتّاكة) الحالية , فإنني اجزم ان مصطلح الفقر سيشمل اكثر 95% من الشعب السوداني.
و نصل بالتالي إلي الاستنتاج الحزين الذي مفاده ان الغالبية العظمي و الساحقة منا تعيش اليوم في ظل دولة الضهاري و أن الدولة ( كما يجب ان تكون) لا تشمل اكثر من أصحاب المشروع (الحضاري) , و الذين تسببوا بعقليتهم الأمنية المحدودة و خلال عقود من التخبط في السياسات العامة , التي تراوحت بين التحرير العشوائي للاقتصاد, في بلد لا يملك فيه المواطن أي شكل من اشكال شبكات الأمان الاجتماعي, والتمكين سيء الصيت و الذي هو أس الفساد المؤسسي محميا بالعنف الممنهج، في تقليصها – أي الدولة – الي حدود لا تتعدي أسوار الثكنات العسكرية , شبه العسكرية , قصور السلطان و وزرائه – الحاليين و السابقين – و تابعيهم و تابعي تابعيهم وجوقة المنتفعين, التي , و يا للدهشة بدأت أصوات بكائها علي اللبن المسكوب تصل آذان الجمهور في الضهاري بوتيرة تتصاعد يوما بعد يوم …
يتبع …[email protected]
مهدي رابح
أخبار الوطن ..
|
خدمات المحتوى
|
مهدي رابح
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|