من يهتم بالعباقرة الآن!
12-06-2018 08:03 PM
لم تعد مهمة المعلم، في هذا العصر، تنحصر فقط في تزويد الطلاب بما لديه من معرفة، معتمداً على ذاكرته أو مستخدماً الكتاب المدرسي والوسائل التعليمية المساعدة، التي توفرها الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم، إن وجدت؛ بل أصبح من أهم واجبات المعلم، في عصر التقنية والتطور العلمي المذهل، أن يراعي الفروق الفردية بين طلابه، معتمداً على مهاراته التي اكتسبها أثناء فترة التدريب والإعداد لتولي هذه المهمة! ومن الضرورة بمكان أن يحاول المعلم؛ خاصة في المراحل التعليمية المبكرة، التعرف على مواهب الطلاب وميولهم ومقدراتهم في مختلف المجالات المعرفية، بهدف اكتشاف العبقرية المبكرة؛ حتى يتسنى له رعايتها بحسب ما هو متاح لديه من وسائل ومعينات، قد تكون متواضعة، ولكن من شأنها إشباع رغبة التلاميذ ذوي القدرات الذهنية المتميزة، سواء كانت تلك الوسائل كتباً أو أنشطة أو برامج أو غير ذلك. وبحسب ما جاء في كتاب العبقرية والإبداع والقيادة لمؤلفه (دين كيث سايمنتن، ومن منشورات عالم المعرفة) فإن هـنـاك تـعـريـفـات عـديـدة خـاصـة بمفهوم العبقرية لكنها تتفق فيما بـيـنـهـا فـي أنـهـا تـشـيـر إلـى الـقـوى والـطـاقـات والإنجازات العقلية الفائقة وغير العادية. والعبقرية-في ضوء هذه التعريفات-هي محصلة لتفاعل خاص بالقدرات التي تنتمي إلى المستويات الـعـلـيـا من القدرات الخاصة بالذكاء وأيضا المستويات العليا من القدرات الخاصة بالإبداع والخيال. نقول هذا والعالم الآن يواجه تحدياً معرفياً كبيراً لا يصلح له إلا العباقرة والمبدعون ممن تسلحوا بالعلم والمعرفة وطرق التفكير الإبداعي التي تمكن الناس من مواكبة التطورات التقنية والعلمية المذهلة التي تطل علينا كلما اشرقت شمس يوم جديد، مما يتطلب الاهتمام بهذا الصنف من الناس بحيث نعد جيلاً قادراً على الإبداع والريادة في الفكر والعلم والاقتصاد والاجتماع وربما السياسة! وعلى سبيل المثال توجد في بعض دول العالم مدارس ومراكز ومعاهد متخصصة تنحصر مهمتها في أعداد القادة وكبار السياسيين والمخططين، ويشرف عليها أشخاص من ذوي التأهيل العالي، ليس فقط في المواد العلمية، بل في شتى ضروب المعرفة المطلوبة لمثل هذه المهمة الطموحة. فما بالنا نحن نقصر في حق أنفسنا بينما نملك كامل القدرة على النهوض والسير قدماً في مجال التطور والتقدم؟ وكم سمعنا بشخص سوداني الأصل والمولد والنشأة والتأهيل، قد أصبح عالماً يشار إليه بالبنان بمجرد التحاقه بالدراسات العليا أو المراكز المهنية في الدول الغربية أو حتى في محيطنا العربي المجاور. وإن دلّ هذا على شيء إنما يدلُ على فشل مؤسساتنا التعليمية في اكتشاف عبقريات أبنائنا وبناتنا من الدارسين والخريجين، بحيث تقدم لهم المساعدة والرعاية المطلوبة داخلياً قبل أن تخطفهم الجهات الخارجية وتحرمنا من الاستفادة من عبقرياتهم. ولعل أقرب شاهد على ما نقول هو موقف الدكتور عبد الله حمدوك، الذي استفاد من علمه في مجال الدراسات الاقتصادية كل العالم إلا السودان، وهنالك الكثيرون من أمثاله تعج بهم دور العلم والجامعات ومراكز البحث العلمي في مشارق الأرض ومغاربها! ولعل أحكي لكم واقعتين في هذا الصدد: ذات مرة كنت أمشي في سوق قرية دميرة في معية الأستاذ عبد الحميد جاد الله، مدير المدرسة الابتدائية، وإذا بفتاة بدوية المظهر تسلم عليه وتتحدث بلباقة لا تتناسب مع مظهرها، فسألته: من هذه الفتاة؟ فرد بقوله: هذه واحدة من أذكى طالباتنا وكنا نتوقع لها أن تكون متفوقة على مستوى الجمهورية؛ لأنها، بإجماع كل المعلمين، ذات عبقرية فذة واستعداد فطري منقطع النظير إلا أن أباها أصر على تزويجها من ابن عمها فخسرنا عقلية متميزة. وهكذا تضيع العبقريات لدينا بمجرد تدخل الأسر الأمية التي لا تقدّر مثل هذه الأشياء على الإطلاق، بل تنظر إلى الأمور من زاوية "غطي قدحك"! وعندما كان الأستاذ أحمد إبراهيم دريج طالباً في مدرسة حنتوب الثانوية، توفي والده فما كان من عشيرته إلا أن اختاروه ليكون شرتاي بدلاً عن الراحل. افتقد المستر بروان، المدرس الإنجليزي، وأول مدير لتلك المؤسسة الرائدة، طالبه المتفوق أكاديمياً وأدبياً ورياضياً، فقرر أن يصطحب مدير مديرية النيل الأزرق إلى الفاشر؛ لأنه كان يتوقع أن يكون لدريج شأن عظيم في تأريخ السودان! وبالفعل ذهب الرجلان إلى دارفور وعادا بدريج إلى مقاعد الدراسة، فواصل تعليمه حتى تخرج في جامعة الخرطوم، وأصبح فيما بعد شخصية سياسية مرموقة يعرفها كل الناس. فمن أين لنا الآن بأمثال مستر براون، الذي كان رجلاً من المستعمرين الذين لا يهمهم تفوق فلان أو علان من أبناء السودان، ولكنه تصرف بموجب موقعه ومسؤوليته كمعلم ينبغي عليه رعاية العبقرية بغض النظر عمن يكون الشخص المعني. وإذا استمر وضع المعلم على ما هو عليه الآن من معاناة وضعف في الإعداد والتأهيل؛ فإننا لا نتوقع أن يكون لدينا كادر تعليمي مؤهل يفعل مثلما فعل المستر براون مع دريج وبالتالي ستخسر البلاد مزيداً من العباقرة؛ نتيجة تصرفات أسرية وتقاليد اجتماعية لا تعرف شيئاً عن العبقرية، وهل لدينا معلمون قادرون على اكتشاف العبقريات حالياً؟
محمد التجاني عمر قش [email protected]
|
خدمات المحتوى
|
محمد التجاني عمر قش
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|