المقالات
السياسة
الرجال البلهاء ومحو التاريخ..!!
الرجال البلهاء ومحو التاريخ..!!
01-12-2019 10:58 PM

جمال محمد إبراهيم

أقرب إلى القلب:

(1)



لم أكن موجودا في الخرطوم ساعة وقع الانقلاب الذي أطاح بحقبة الديمقراطية بعد انتفاضة أبريل 1985. ذلك كان موسم ربيع السودان الثاني، ولكن لم يسمه الناس في السودان فالربيع في السودان يُسمع به موسما عند آخرين، ولا يعرفونه ولا يجري إلا على ألسنة الشعراء، خيالا متوهما.

سمعت وأنا أؤدي مهمتي في سفارة السودان في السعودية ، أن جماعة قامت بانقلاب عسكري قصد "إنقاذ" البلاد من الفوضى والتدهور في الحياة السياسية، وقد انشغل قادة البلاد في مناكفات لا طائل وراءها، وفي الحياة الاقتصادية إذ انهارت العملة السودانية، وفي المجال العسكري إذ كان الجيش على شفا هزيمة منكرة في الجنوب.

لربما كان ذلك ما يبرر ما ادعوه، فقاموا بالمغامرة العسكرية. غير أن ما بلغني أوانذاك أن أمورا شكلية لم يكن مما يتوقعه عقلاء الناس، قد قام بها أتباع ذلك النفر الذين تولوا إدارة البلاد. مع المهام الكبيرة التي ادعوا أنهم جاءوا للقيام بها، أثار دهشة الناس التفات أصحاب الانقلاب إلى محو بعد الرموز البريئة التي درج الناس على رؤيتها في الساحات العامة، وقد اعتمدوها تجسيدا لملامح من تاريخهم.

(2)

عكف بعض مهووسون إلى تمثال للجندي المجهول كان في دوار شهير قبالة مدخل محطة السكك الحديدية في قلب الخرطوم، فتعهدوه تحطيما بمعاولهم وأزالوه تماما، بل وحتى الدوار نفسه صار أثرا بعد عين. . أي جناية ارتكبها ذلك الجندي المجهول فتولاه نفر من الجهلاء بالتحطيم، وكأن روحاً من التشفي قد حركتهم لإزالته باعتباره صنما من حجر، ذلك العنف الذي قابلوا به تمثال الجندي المجهول بدا أشد عزماً من ذلك الذي تولت "قريش" بعد إسلامها تماثيل هبل واللات والعزّى..

(3)

لم ينته الأمر بالغباء الذي يوازي البلاهة هنا، بل مضى جمع من أتباع من قاموا بذلك الانقلاب العسكري، إلى جامعة الخرطوم. قد يكون من بين من دفعوهم إلى تلك الجامعة، قادة لهم كانوا من طلاب الجامعة، قبل نحو عشرين عاماً أو نحو ذلك، ممّن قادوا بتهريجهم ليلة فولكلورية تحفظها ذاكرة طلاب ذلك الزمان، أقيمت في قاعة الامتحانات في جامعة الخرطوم، باسم "ليلة العجكو". كانت عروضاً قام بها الطلاب لعكس تنوع الفنون الشعبية في السودان.

نفس تلك الذهنية التي حسبت أن تلك الليلة هي لإشاعة الفسق، فعكفوا على فضّها بعنفٍ غير مسبوق في تاريخ جامعة الخرطوم، جاء أصحابها إلى الساحة التي تقع أمام المبنى التاريخي لكلية "غوردون" والذي صار يحتضن مكتبة جامعة الخرطوم. هنالك يوجد تمثال للشهيد "القرشي" الذي سقط في ندوة الجامعة الشهيرة في أكتوبر من عام 1964، وهي فتيل الثورة التي أسقطت النظام العسكري للفريق ابراهيم عبود. بعد انقلاب 1989، فعل هؤلاء النفر بتمثال "الشهيد القرشي"، فعلهم بتمثال الجندي المجهول، تحطيماً وسحلاً. عميت عيونهم عن رمزية الفعل الوطني الذي أنجز، بعد ندوة الجامعة الشهيرة، موسما لربيع سياسي في البلاد، فلم يروا أمامهم إلا صنم مثل أصنام الجاهلية الأولى فأعملوا معاولهم فيه بغير رحمة..

(4)

في مدينتي أم درمان، تقع مدرسة الأحفاد للبنات جنوبي المجلس البلدي وقبالة شارع الموردة وسرايا "أبوالعلا" القديمة. ثمّة تمثال لرائد تعليم البنات في السودان، الشيخ المحترم بابكر بدري. ولولا أن التمثال مسوّر ويطل على الشارع، ولكنه داخل حرم المدرسة، لألحق به النفر البلهاء مصيراً، مثل مصير سابقيه من التماثيل الرمزية التي رآها الرجال البلهاء، أصناما فحسب. كان آل بدري وأحفاده، أسرع منهم إلى "إنقاذ" تمثال بطل تعليم البنات في البلاد. ما حسبوه صنما تجب إزالته، يقوم الآن تمثالاً نصفياً لبطل التعليم والاستنارة، في "مكتبة الحفيد" في جامعة الأحفاد للبنات.

(5)

وقفتُ قبل نحو عامين في شارع النيل، قبالة "مستشفى النهر"، فدهشت للاسم الجديد الذي أطلق على ذلك المستشفى التاريخي . كان الاسم الجديد هو "مستشفى عبدالفضيل الماظ التعليمي للعيون". لم تدم دهشتي طويلا، إذ سرعان ما تنبّه الرجال البلهاء أن ذلك الاسم لا يرضيهم . هذه المرّة، لا حاجة لمعاول لتحطيم صنم. تلك لافتة أنزلوها بنهار، ثمّ علقوا مكانها اسماً جديدا هو " المستشفى التعليمي للعيون". لقد اكتشف الرجال البلهاء أن الشهيد "عبدالفضيل الماظ"، لا علاقة له بالسودان، بل هو مواطن من دولة أخرى اسمها "دولة جنوب السودان". لحكومة تلك الدولة إن شاءت، أن تطلق اسمه على مستشفى له هنالك في عاصمتهم جوبا.

لو خُير البلهاء، لشطبوا اسم "عبد الفضيل الماظ" من جميع تسجيلات أناشيد الفنان محمد وردي..! لا غرو فقد حاولوا نزع "القبلة السكرى" لعثمان حسين، و"سقاة الكأس من عهد الرشيد" لسيد خليفة، و "نضر الله وجه ذاك الساقي" لعبدالكريم الكابلي، من ذاكرة ومن وجدان السودانيين..!!

(6)

إن اغتيال التاريخ يتم عبر محو رموزه القائمة، والتي يراها الناس ماثلة أمام أعينهم. يعلم الرجال البلهاء أنها محض تماثيل ورموز وغناء، لكن فعلوا فعل السحرة الكذّابين بطعن الدمية بالإبر، ليموت الشخص المقصود، وينمّحي الرمز المقصود.

قد لا يرى البعض فيما حكيت هنا، شيئا ذا بال، فيما الشوارع ملأى بالشباب الثائر، ممّن يرى الأولويات هي أبعد مما ذكرت. لكن هذه الأيقونات هي رموز لإحياء الانتماء للوطن الذي جرى تشويه تاريخه، مثلما تجرّأ جهلاؤهم على تحطيم تماثيل دالة على عظمته. تلك الرمزيات تدل على تاريخ، وتتصل بوقائع بعينها. هي ممّا يغذّي ذاكرة الناس بالانتماء لوطنٍ، تلك هي أيقوناته وبعض فصول تاريخه.

ما حكيت هنا، هو تذكرة بفعل ثوري سيطال الساحة الثقافية بلا هوادة.

الخرطوم – يناير 2019

[email protected]





تعليقات 1 | إهداء 0 | زيارات 958

خدمات المحتوى


التعليقات
#1810254 [سيف الدين خواجة]
0.00/5 (0 صوت)

01-13-2019 10:05 AM
شكرا استاذنا الجليل نعم ما اشرت اليه هو ذاكرة تاريخنا اليومية امامنا وشئ من ذلك حدث لتمثال البطل عثمان دقنه في ركم الحديقة الكبري متنفس الناس ورئتهم كان تمثالا جميلا للفارس يمتطي صهوة جواده ممتشقا سييفه كانه طائرا في الهواء كمن يقرا المستقبل تصور جعلوه كومة من تراب مما جعل فنانه يموت حسرة علي اعماله الكثيرة التي جمل بها المدينة ولما كان الشئ بالشئ يذكر علمت ان من بين المعتقلين في ايلتهم الاولي مديرمصلحة الاثار ورموه في اعلي المبني بحجة انه مدير الاصنام ادركنا ان ليلنا قد طال فمتي ينجلي وقاهرة الازهرة معطم دخلها من سياحة الاثار اي رجال بلهاء كانوا وما زالوا !!!


جمال محمد ابراهيم
جمال محمد ابراهيم

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة