إن وتيرة تبدل الأدوار والثوابت السريعة التي تكتنف الأحزاب السياسية السودانية، من ناحية والجماعات الدينية الراديكالية (التي تنتحل الصفة السياسية بطبيعة تكوينها) إنما يشبه تماماً ما يحدث في غرف قياس الملابس في محلات الأزياء، فالكل في حالة لهاث لاختيار الزي الذي يناسب التطورات المتسارعة التي تقودها الروح الثورية في الشارع العام. رغم ما في هذه التبدلات الزلزالية من مبشرات بقرب فك (اللحام) الذي ظل يؤطِّر هذه الاحزاب والجماعات (دوغمائياً)، إلا أن هنالك دائماً مفهوم (التقية) الذي يثير الخوف، فسرعة التنازلات وحجمها تشي بأنها لم تخضع لمراجعات فكرية تؤصل لها، وإنما هي استجابات تكتيكية تمليها (اللحظة).
هذه التحولات المفاجئة في المرجعيات والمنطلقات الفكرية وهذا الانزلاق الحر من منصات الاقلاع العتقية (المحافظة والاتباع والتقليد والوراثة وعبادة التراث والآباء) نحو مرجعية الشارع الدينامية الجارفة (الهيولية) التي لا تهادن ولا تفاوض في سيرها ونزوعها نحو "مطلق" الحرية، حرية غير منقوصة، حرية ذات صراع وجودي مع تلك الاحزاب والجماعات.
إن حُلم دولة السودان الكبرى الثاوي في لاوعي كل سوداني لم يتفسخ عقله ولم ينقاد صوب المشرق أو المغرب، يفرض على كل الأحزاب والجماعات إعادة صياغة ذاتها وفق تاريخ وأصالة شعبها، فالسودان اليوم أمام لحظة اللاعودة (Point of no return) التي ستؤسس لواقع جديد لن يكون مشابهاً بأي حال من الأحوال لما سبقه (Will never be the same again).
حالة الوعي بالذات والتاريخ اصبحت مرتفعة جداً، فالكل اليوم يدري أن (سلفه) في الحكم هم ملوك (كوش) وليسوا آل العباس، فبحسب السحنات والعادات والتقاليد فإنا لسنا منهم، بيد أننا قادرون على أن نعايشهم، كذلك نجد نساء السودان اللائي خرجن إلى الشوارع قد علمن يقيناً أنهن ينحدرن من سلالة (ملكات) لا تحكمهن عقلية الحريم والهودج حيث المرأة يتم تزويجها بالوصاية وهي رضيعة، وإنما هنَّ من (كوكب) آخر تماماً تفوق فيه حقوق المرأة حقوق الرجل وتتفوق اجتماعياً حتى تصبح (كنداكة)، فلماذا لا نأخذ بالعفو ونأمر بالعرف المعروف لدينا هنا في بلدنا نحن.. وليس عرف الصحراء.
اليوم نحن أمام مرحلة (قيادة الأفكار لا مرحلة القائد الذي يفكر)، ليس لدينا في تراثنا المتداول ما يلبي رغبة وطموحات هذا الشعب الذي خرج على ذاته وشق جلباب آبائه، نحن في حاجة لأفكار جديدة وعقول نيرة تأخذ بأيدي الناس إلى دنيا رب الناس بلا خوف ولا وجل، تلك الدنيا الرحيبة والحرة حيث السماوات مفتوحة لا تحدها إلا حدود قدراتنا نحن على التفكير، دنيا جديدة تتجدد بتجدد فهمنا نحن في زماننا نحن لكتابنا نحن لصلاحنا نحن، دنيا فيها الدين يخدم مصالح الناس ليعيشوا في إخاء، دنيا فيها الوطن يسع الجميع ولا سلطة تحاكم ضمائر الآخرين، دنيا نحن أدرى بأمورها ودروبها وشعابها من أي سلف (مضى) مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم (أنتم أدرى بأمور دنياكم).
لقد آن لنا أن نخلع الكفن الذي نتدثر به، وأن نتبرع بالحانوط الذي نتطيب به لمن يريد الموت، فنحن أمة لمَّا تتلمس طريقها بعد إلى مستقبلها، وأن نتوقف عن سؤال الله حسن الخاتمة، وأن يكون سؤالنا هو حسن الحياة والمعاش وحسن العلم والتعلم والتطور وحسن المعشر وحسن الخلق والتخلق، فحسن الخاتمة نتيجة وليس غاية....
[email protected]