حافظ عباس قاسم
١- (أ) لقد صدق البشير حينما قال في العديد من مخاطباته ابان الربيع العربي بأنه قد حدث وتحقق في السودانمنذ ٣٠ يونيو ١٩٨٩ . كما انه كان اكثر صدقا ولدرجة المباهاة حينما ذكر في اكثر من مناسبة بانهمقد دعموا وساعدوا في في انجاح الربيع العربي بالمال والسلاح والرجال والاستخبار وبشكل خاص في ليبيا . و لكن ما يثير الحيرة والدهشة والعجب ما افاد به مؤخرا ابان زيارته الاخيرة للقاهرة وفي حضرة الرئيس السيسي ان ما يحدث في السودان الان ما هو الا محاولة لاستنساخ ما يسمي بالربيع العربي ، الشئ الذي يعني تراجعا وتنكرا لتصريحاته السابقة وتحولا بدرجة ١٨٠ عن هو متاح كتابة وصوتا وصورة لاقواله لدي اليوتيوب وقوقل !؟!؟! . . واذا ماعرف السبب بطل العجب خاصة اذا ما عرفنا بان الربيع الذي كان يعنيه سيادته في السابق هو الربيع الاسلاموي وما ينكره وتنكر له حاليا هو الربيع الحقيقي وسيد الاسم اي الصيف السوداني وفقا لتسميتنا !؟!؟!
(ب) - كثيرا ما يردد الكثيرون من المشاركين السودانيين في برامج القنوات الفضائية بان شعب السودان هو معلمالشعوب العربيةوالافريقية واستاذها في كيفية مقارعة الانظمة الشمولية واسقاط الدكتاتوريات العسكرية والي درجة امتلاكه لبراءة الاختراع وتملكه للحقوق الفكرية والقانونية للريادة الثورية في ذلك . وفي اعتقادي ان القضيةليست خاصة بالجينات ولا منافسة في الانتماء لهذا الجنس او ذاك او مفاضلة بين الشعوب وان هذااحسن الشعوب او ارجل من ذاك الشعب ، خاصة وان مثل تلك الحالات والاوضاع هي نتاج تفاعل عوامل كثيرة ومتعددة ومختلفة منها ما يختص بالجوانب النفسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية كما انها قد تتاثر ايضا لحد ما بالعرق والاثنية والدين والتراث ، وان ذلك يرتبط بالضرورة بالحغرافيا والتاريخ والطبيعة والمناخ وسبل كسب العيش والعلاقات الاجتماعية . الا ان المهم في كل ذلك ان لم يكن الاهم هو انتشار المعرفة وتعميق الوعي ، وطرق ادارة الجماعات الانسانية والسياسية وتتظيمها في اطر معينة وديمقراطية والقيادة السياسية الفعالة انطلاقا من الخبرة التاريخية المكتسبة والتجربة العملية والمقارنة .
(ج)- من ناحية فان الاعلام الاجنبي خاصة العربي غالبا مايعزو ويؤكد ذلك النظام الانقاذي نفسه في السودان بان مايحدث في بلاد السودان ومدنه وبواديه وشوارعه وساحاته هي حركات احتجاجية مناهضة للسياسة الاقتصادية بسببالغلاء والشح في القوت والوقود والنقود والدواء الشئ الذي قد يجعل من هبة هذا الجيل من اهل السودان انتفاضةجياع والتي غالبا ما ستخمد وتنتهي بتحسن الاوضاع الاقتصادية وتفكيك اختناقات الاقتصاد والتغلب علي ضوائقه . كما يمكن ايضا ان يؤدي الي وصف هذا الحراك الاجتماعي والسياسي في السودان بانتفاضة الحرامية كما جاء في وصف الرئيس السادات لانتفاضة المصريين في يناير ١٩٧٧ ، او كمخطط عملاء واستهداف للوطن من قبل الدول المعادية وعمل من اعمال التخريب واشاعة عدم اللستقرار من قبل المندسين والخربين كما اشاع ويشيع البشيروقيادات نظامه واعلامه واعوانه المختلفين .
(ح)- ومن ناحية ثانية فدائما ما يصف ذلك الاعلام ان ما يحدث في السودان هو محاولة سودانية للحاق بالربيعالعربي الذي غشي وعم المنطقة قبل عدة سنوات ونجح في اسقاط حكومات الدول الذي حدث فيها بهروب اوتخلي او اغتيال رؤسائها ، و اجهض وقمع في اخري اوجيرت وتم اختطاف مكتسباته . وفي الوقت الذي يجهدون التفكير لمعرفةاسباب تأخره في السودان ولسنوات عدة ، يحذرون من نتائج العنف المفرط الذي صحبه ونتج عنه كما حدث فيالبحرين وتحوله الي كابوس وكوارث كما في كل من ليبيا واليمن وسوريا او عودة الدولة العميقة كما في تونس وبشكل اشرس كما في الحالة المصرية و هذا في احسن الفروض .
(د)- لي عنق الحقائق وتشويهها والي درجة التزوير الواضح للتاريخ السوداني الذي يقترفه الاعلام الخارجي ويتماهي معهم في ذلك المشاركون في البرامج المختلفة خاصة السودانيون تكمن في القول بان البشير قد استولي علي السلطة بانقلاب عسكري قام به في ١٩٨٩ عن طريق القوات المسلحة وظل يحكم قبضته علي البلاد والعباد لمدة ٣٠ عاما بواسطتها . والحقيقة ان القوات المسلحة بريئة من الانقلاب براءة الذئب من دم بن يعقوب . فهي لم تقم باي انقلاب وانما استغل اسمها استغلالا خسيسا وازياءها وشاراتها العسكرية في عملية السطو علي السلطة والذي دبره ونفذه حزب الجبهة الاسلامية عن طريق مليشياته وعناصره المسلحة والي درجة امتلاك التنظيم ليس فقط للاسلحة وانما ايضا لنظام اتصال بدرجة عالية من التقدم واجهزة للارسال الاذاعي والتلفزيوني . والحقيقة الثانية ان مجلس الثورة الصوري والواجهة الرسمية للانقلاب كان للتمويه فقط ولاضفاء الشرعية علي التشريعات والقرارات والاوامر والتوجيهات ومخاطبة الشعب والعالم الخارجية ، حيث ان كل الامور كانت تدار بواسطة نائب الامين العام للتنظيم علي عثمان من مباني بنك الشمال ومنظمة الدعوة الاسلامية ويتابع ويشرف علي التنفيذ الجهاز الامني التابع للتنظيم . والبشير نفسه في حديث الترابي لبرناج شاهد علي العصر قد تم اختياره في اخر لحظة ولظروف خاصة بالتنظيم ليكون قائدا لمجلس الثورة مع ضباط اخرين تم اختيارهم لاعتبارات تمثيل الاسلحة المتعددة للجيش ومناطق السودان المختلفة. والمعروف في ذلك الوقت وصار جليا ومؤكدا الان هو ان الحكم وطيلة العشرية الاولي للانقاذ كان يدار من وراء ستار وان السلطة الحقيقية كانت في يد علي عثمان قبل ان يخرج الترابي من سجنه الاختياري لممارسة السلطة الفعلية وادارة الدولة . وانه بعد ما يعرف بالمفاصلة في ١٩٩٩ وابعاد الترابي تمركزت كل السلطات في يد علي عثمان النائب الاول لرئيس الجمهورية ، وان البشير لم يبدأ في ممارسة اي سلطة حقيقية الا بعد انتخابه رئيسا للجمهورية في ٢٠١٥ في الجزء المتبقي من السودان ، وان هذه الممارسة تدرجت من الامر او النهي الي ان صار الحاكم بامره وبسلطات مطلقة من جراء التعديلات الدستورية المختلفة خاصة بعد مسرحية الحوار الوطني وابتعاد علي عثمان الي الظل والهيئة القيادية للمؤتمر الوطني والامن الشعبي .
٢- لحكمة لا يعلمها الا الله او لميزة اختص بها المولي عز وجل دولة السودان وشعبها فان السودان ( والذي لا اعرف سبب تأنيثه من قبل الاعلام العربي بالرغم من التصديع بذكورته من قبل ابنائه انفسهم )، ومن حيث المناخ والطقس لا ولم يعرفالربيع كموسم من المواسم الاربعة المعروفة وتتناوب فيه فقط فصول كل من الصيف والشتاء والخريف والي درجة ان بعضهم يوصف طقس السودان بالحار والحار جدا والحار جدا جدا وهلمجرا . وان الكثير من السودانيين دائما ما يصفون بلدهم بالحار الجاف والمترامي الاطراف ..
٣- هذا من ناحية الطبيعة اما من ناحية السياسة وظاهرة الربيع العربي كظاهرة سياسية فيمكن القول ان السودان قدعرف ظواهر الربيع العربي منذ قديم الزمان ومارست شعوبه وقبائله ومدنه وبواديه انواعا مختلفة منه في شكل هباتوانتفاضات وتمرد وثورات ضد الاستبداد والتسلط والقهر والظلم والفساد وسوء ادارة البلاد ومواردها والتعسف في حكم العباد . هذا وفي اطار التاريخ المدون يمكن ان نعتبر ثورة السودانيين بقيادة المهدي الكبير ضد حكم خديوي مصر والسيطرة عليه وحكمه باسم تركيا العثمانية والمقاومة المتواصلة لاحتلاله البلاد واستعباده العباد والي درجةحرق ابن الخديو اسمعيل وجنده في شندي كأكبر ربيع لم تشهده المنطقة او الاقليم او حتي العالم نفسه في ذلك الوقت ، الشئ الذي حدا بالبريطانيين بالاعتراف بجسارة المحارب البجاوي في شرق السودان وبهزيمة عثمان دقنة لتكتيكهم العسكري المعروف بالصندوق او المربع الانجليزي والي درجة اشادة شاعرهم الاسكتلندي شعرا بشجاعة الفزي وزي ، وبعد عدة سنوات اعلان بريطانيا العظمي الغضب والحداد علي مقتل بطلهم الاسطوري في حروب الافيون في الصين غردون باشا والذي يوصف ويسمي بالقديس ، في قصر الحاكم بواسطة انصار المهدي عندما سقطت الخرطوم عاصمة الدولة الخديوية في السودان واضطرارها لارسال تجريدة عسكرية في محاولة لاتقاذه والتفكير في تسيير الحيوش انتقاما لمقتله بسبب الضغط الشعبي والراي العام البريطاني . ومن ناحية اخري فان اعادة احتلال السودان واقامة الحكم الثنائي في عام ١٩٩٨ وبسيطرة مباشرة لبريطانياقد صاحبته مقاومة فائقة الشجاعة في كرري والتي سجل تشرشل المراسل الصحفي العسكري وقتها ورئيسالوزراء البريطاني لاحقا مجازرها البشرية وملاحمها البطولية ، بالرغم من عدم التكافؤ في القوة وفي العتاد فيكتابه المعروف بمعركة النهر .
٤- وما يجدر ذكره ان الربيع كظاهرة سياسية وحراك اجتماعي في شكل ثورة ضد الحكم التركي ، وسخط وعدم رضاءوتمرد ضد تسلط وفساد حكم خليفة المهدي قد ظل كامنا ومتقدا ايضا طيلة سنوات الحكم الثنائي. والامثلة هنا كثيرةوعديدة في كل من دارفور وكردفان وجنوب البلاد ووسطها وان الرفض قد بلغ قمته احيانا بخروج العسكريين السو دانيين في مظاهرة عسكرية وباسلحتهم في ما يعرف بثورة ١٩٢٤ ضد الاستعمار البريطاني والذي اضطر الادارة البريطانية لهدم الثكنات العسكرية علي روؤسهم واعدام من نجا من عمليات القصف. كما شهدت البلاد ما يعرفباضراب ومظاهرة بوليس الخرطوم في ١٩٥١ وقبلها مظاهرات عمال السكك الحديدية في عطبرة ضدالاستعمار ، واضراب الثلاثون يوما الشهير للاعتراف بهيئة شئون العمال من اجل الحقوق ، خاصة حق التنظيم سلاح الفئات الكادحة وذوي الدخل المحدود والمعدوم ، ذلك السلاح الذي هزم الاستعمار وارهب الحكومات واسقط الانظمة وتخاف منه الانقاذ ، الشئ الذي جعل احد رجالات الادارة الاهلية بالتنبؤ بنهاية انظمتها التسلطية واحكامها الجائرة وربط ذلك بيوم وصول خطوط السكة حديد وقطاراتها الي مناطق نفوذهم ومن ثم التنظيم والوعي والقوة . اما تاريخ السودان الحر والمستقل فقد دون هبات وتمرد المناطق المهمشة في الجنوب والشمال والغرب والشرق وان ظواهر الربيع السياسي قدبلغت ذروتها في كل من ثورة اكتوبر ١٩٦٤ وليلة المتاريس ونزول الجماهير للشوارع واحتلالها لحماية الثورة ، وكذلك الانتفاضة في ابريل ١٩٨٥ وهبة سبتمبر ٢٠١٣ والان انتفاضة وهبة ديسمبر ٢٠١٨
٥- بالغاء الضؤ علي الربيع العربي الذي عرفته تلك الدول العربية ودراسة حيثياته وملابساته سنستخلص انه لايمكن باي حال مقارنة ما حدث فيها بما يحدث الان في السودان ، وينطبق ذلك ايضا علي وصف ما يحدث بالربيع العربي . ومن ثم فانالحديث عن تأخره وتطوراته ومألاته ونتائجه حديث لا معني له ومقارنة لا مجال لها . بل ان من الضرورة بمكان عدم مقارنة الاشياء المختلفة والي درجة التضاد . فاذا كان الربيع العربي هو احمد فان ما يحدث في السودان ليس هو باي حال من الاحوال حاج احمد كما يقال عادة عن التطابق ، بل بالعكس هو مستر او محمد افندي او حتي شيخ محمداحمد بمعني الزعامة والتعقل والحكمة لا بالمعني الديني المبتذل ان جاز استخدام مثل هذه التعابير . والسبب ببساطة هو ان الربيع العربي قد صاحبه صعود الاسلام السياسي وغلبة شعاراته وعلو كعبه في المسرح السياسي والي درجة نجاحة في بعض الدول في الوصول الي السلطة والهيمنة علي مجالسها النيابية والتمثيلية وتشكيل مناهج وسياسات الدولة والتأثير علي قراراتها المصيرية . اما الصيف السوداني فهدفه الاسلام السياسي واسترداد الدولة المختطفة وتحريرها من قبضته والتي حدثت بالسطو علي السلطة في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ وتحقيق السلام ، وبكلمات اخري تفكيكها وتصفية التمكين وقبر الاخونة عن طريق اعادة هيكلة الدولة واقامة الدولة المدنية ودولة المواطنة لكل السودانيين وضمان المساواة والحرية والعدالة للجميع والتداول السلمي للسلطة ،وما يستوجب ذلك من تغييرات ضرورية وقوانين وتشريعات وسياسات مطلوبة لاحداث التغيير و لصناعة المستقبل الجديد للسودان .هذا وبينما الربيع العربي والذي ربطته وتربطه العديد من القويالسياسية بمخطط الفوضي الخلاقة ومخططات امريكا والصهيونية العالمية في المتطقة والذي ركب موجته وجيرته عناصرالاسلام السياسي في تلك الدول لخدمة اهدافهم وتطبيق شعاراتهم المتمثلة في حاكمية الله واقامة الخلافةالاسلامية ، ودعمته ومولته كل من قطر وتركيا والسودان والتنظيم الدولي للاخوان المسلمين ، وروجت له قناةالجزيرة خاصة العربية من قطر ومباشر في مصر مستفيدين من دعم ومساندة راس المال الاخواني في المنطقة وامكانيات التتظيم الدولي ،وقوتهم الذاتية الاقتصادية والخدماتية ونفوذهم في الداخل وتغلغل تنظيماتهم في الاحياء الشعبية والاوساط الفقيرة كنتيجة لذلك ، وفي نفس الوقت قلة وضعف الوعيالاجتماعي للفئات الشعبية وسهولة انتشار وقبول الشعارات الدينية والتطلعات المشروعة وغير المشروعة للطبقات الوسطي والبرجوازيةالصغيرة . .......... ونواصل
[email protected]