الخطاب الذى قدمه عمر البشير للشعب السوداني، يوم الجمعة 21 فبراير الماضى، من القصر الجمهورى، يعتبر الأول منذ بداية الثورة السودانية منتصف ديسمبر 2018م. فقد ظل عمر البشير طيلة الفترة الماضية، يتعرض للحراك القائم كحالة عارضة لا تستحق التناول الجذرى، رغم تعرضه لها فى كل المناسبات التى ظهر فيها عبر الإعلام الرسمى. لقد ظهر البشير على الشاشات منذ بداية الثورة فى عدة مناسبات، مثل لقاء قادة الشرطة، و حامية عطبرة، حشد الكريده الصوفى و حشد الساحة الخضراء و زيارة نيالا و كادقلى و الأبيض. الدافع وراء كل هذه الحركة الصاخبة هو الرد على الحراك الشعبى المطالب بتنحيه و زوال حكمه بشعار (تسقط بس )، بإظهار وجود موالين له يمكن أن يثبتوا حكمه المهتز تحت عنوان (تقعد بس ). إذا ما الذى يحمله هذا الخطاب الذى أصاب كثيرين بخيبة الأمل..
أولا: لقد جاء الخطاب بعد إجتماع البشير بأعضاء حزبه النافذين فى السلطة، و تأخر خطابه طويلا بسبب المداولات داخل الإجتماع حيث جاءت المخرجات مختلفة تماما عما سربه مدير جهاز الأمن للإعلام قبل إلقاء الخطاب.
فالإجتماع الذى فرضه الحراك الثورى لم يكن معنيا ببحث سبل معالجة الأزمة الوطنية التى بلغت سقفها الأعلى، و إنما بحث سبل تجنيب منظومة المؤتمر الوطنى مآلات هذا الحراك الذى بات واضحا أنه لن يرضى بأقل من زوال النظام برمته و ليس رموزه فقط. لذلك جاء الخطاب فضفاضا و خاليا من أى مضامين.
ثانيا: سبقت هذا الخطاب تحركات دولية و إقليمية و داخلية على صلة مباشرة بما يجرى فى السودان. أهمها التحرك الأمريكى الذى يبحث عن خروج آمن للبشير تحت لافتة الإستقرار مقابل العدالة. بمعنى أن تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية نفوذها الدبلوماسى فى سحب ملف دارفور من المحكمة الجنائية الدولية، و ترتيب بديل داخلى للنظام يضمن عدم المساءلة الداخلية لمنسوبيه و رموزه.
و هذا الخط يجد إمتداده المكمل له فى بعض داوئر المعارضة و الحكومة على رأسها رئيس حزب الأمة القومى و أسرته التى تتوزع ما بين نداء السودان و القصر و الأمن. و هذا يفسر زيارة القائم بالأعمال الأمريكى للصادق المهدى فى الأسابيع الماضية بمنزله لإستطلاع الأوضاع فى السودان، و يفسر أيضا الدور المسنود لإبنه عبد الرحمن فى الإفراج عن المعتقلين، و كذا الإفراج عن منسوبى أسرته و حزبه دون بقية المعتقلين من موكب قادة العمل السياسى و المدنى قبل أسبوع. و يفسر أيضا صمت الصادق طويلا بل و تهكمه على الحراك قبل أن يلتحق به أخيرا.
كما يفسر ذلك إنتقائية الإعتقالات التى تطال معسكر المعارضة و قادتها.. فبينما يتم استهداف قوى الإجماع الوطنى بهذه الإعتقالات الإنتقائية، و الإحتفاظ بقادتهم كرهائن فى ظل الحديث عن تحسين سلوك الأحزاب من باب الإبتزاز، يتم بالمقابل عكس ذلك مع آخرين..
على سبيل المثال من حزب البعث فقط لا يزال الأستاذ على الريح السنهورى أمين سر الحزب معتقلا منذ موكب المهنيين الأول فى 25 ديسمبر 2018م، كما من ذات الحزب نائبه عثمان إدريس أبوراس الذى أعتقل من موكب قادة الأحزاب و لم يفرج عنه حتى الآن، و قبله محمد ضياء الدين الناطق الرسمى للحزب، و المهندس عادل خلف الله رئيس اللجنة الإقتصادية، و قبله وجدى صالح المحامى، و المهندس عبد الرحيم السنجك، و الكوادر النسوية القيادية الأستاذتان منيرة سيد على و أمانى إدريس.. و العشرات ممن لا يسع المجال لإيراد أسمائهم..
ثالثا: تضمن الخطاب بعض العناوين المتداولة فى خطاب الثوار، مثل الكفاءات و قومية الحكم، ولكنه تضمين للإستهلاك و الإفراغ من المحتوى ليس إلا. فقد جاءت الإجراءات اللاحقة لتقول العكس تماما على صعيد حل حكومة الوحدة الوطنية و التعيينات البديلة مركزيا و ولائيا.
رابعا: بعد كل هذه الشهور الطويلة من الغلاء الفاحش و إنعدام السيولة و أزمة الدقيق و الوقود و غيرها، يقول عمر البشير أنه (سوف يوجه) حكومة الكفاءات التى لم يشكلها بعد، باتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة الأزمة الإقتصادية. وهذا معناه الصريح و الواضح، أنه لا حل يرتجى من البشير و نظامه، و لا خيار سوى زوال حكمه.
خامسا: محاولة عسكرة المشهد السياسى بحالة الطوارئ، و تعيين قادة عسكريين فى الولايات، هو بالدرجة الأساس، ترتيب أوضاع داخلية لها علاقة بتوازن القوى داخل النظام، و لا علاقة لها بحراك الشارع، الذى تخطى حواجز الرهبة و الخوف، و تحدى آلة القمع و البطش بعشرات الشهداء و آلاف المعتقلين و المعتقلات. و يدرك قادة النظام قبل غيرهم أن العنف و الترهيب لن يزيد الثورة إلا اشتعالا و لهيبا.
خطاب القصر الأخير هو خطاب الرحيل بما يتضمن من مؤشرات و إفلاس. و هو يفتح الباب لتقاطع سيناريوهات الرحيل، التى شهدتها تجارب سابقة فى المنطقة، أهمها تونس و مصر. و لقطع الطريق أمام سرقة الثورة أو الإنحراف بها أو إنتكاستها، فإنه لا بد من إعلان الإضراب السياسى و العصيان المدنى الآن و ليس غدا...
المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.