الثورة السودانية.. براءة الثياب البيض؟
03-07-2019 08:25 PM
يحاول النشطاء و الثوار على مواقع التواصل الاجتماعي التركيز على فكرة اسقاط النظام واستبعاد أي محاولات تساؤل ومراجعات مهمة بطريقة توحي بأن مكونات الشارع الحالية منسجمة ومتناغمة بصورة لا تهدد الثورة الوليدة بعد نجاحها في اسقاط نظام المؤتمر الوطني. المهددات حاضرة وكثيرة. سقف الخلافات غير المعلنة بين مختلف الفصائل المشاركة في الثورة منخفض لدرجة قد لا يعمل معها أي حوار في إيجاد صيغة تعاون مشتركة في تفكيك ما تبقى من بنيات النظام وبناء نظام ديمقراطي حقيقي، الأمر الذي يعني فتح الباب أمام نزاعات مسدودة الأفق قد تؤدي لعنف.
(1)
أقول ما ورد في المقدمة استنادا على واقعة الخلاف حول حملة الثياب البيضاء التي بادرت بها مجموعة من الناشطات على الفيس بوك بإنزال صور هن بثوب سوادني أبيض اللون. دفعت الحملة بالكثيرين للتساؤل حول مبررات اختيار الثوب السوداني من دون قطع الملابس اليومية التي ترتديها النساء في أجزاء مختلفة من الوطن، والتساؤل عن لماذا اللون الأبيض تحديدا؟ كما طرحت ذلك الدكتورة اشراقة مصطفى في صفحتها على الفيس بوك. تعالت غالبية الأصوات عندها تقول بأن مثل هذا التساؤل فعل انصرافي يعطل مهمة اسقاط النظام ويصرف الناس عن ذلك بشواغل ليس هذا وقتها.
مفهوم أنه في فضاء مثل الفيس بوك ومنابر التواصل الاجتماعي الأخرى أنها منابر تعبئة بامتياز في مثل هذا الظرف، وأن أي صوت يشاتر في هذه الفضاءات مصيره التجاهل والمعاداة، والتشكيك في نواياه في أقصى الحالات.
في تقديري أن هذا العزل والاستبعاد ليس بسبب الانشغال باسقاط النظام، ولكن يدخل في باب إجراءات المنع الخاصة بالخطاب. باعتبار أن الثورة هذه ستسقط النظام مثلما حدث في أكتوبر 64 وأبريل 85 بذات الطريقة مع توقع نتائج جديدة هذه المرة. منع الحديث واسكات الكلام في الأمور التي تهم مهما كانت طفيفة يصب في مصلحة القوى المخلصة لتكرار التجربة التاريخية بذات الطريقة، وفي مصلحة الشرائح والفئات المستفيدة من النظام، أو التي إن لم تكن مستفيدة بشكل مباشر ستتضرر من أي عملية تغيير جذري وشامل تعيد تحديد قواعد اللعب وأدواتها وترتيب المسرح بشكل غير مألوف بالنسبة لها.
(2)
حين ترتفع أصوات متسائلة حول ما نعتبقد طوال الوقت بأنه رمزنا الوطني وهو الثوب السوداني، أيا كانت محدودية هذه الأصوات، فيجب أن نعترف بأن هنالك أزمة تتمدد في السطح الذي يبدو هادئا، وهي أزمة هوية. وبدون التعريفات والتعقيدات الكثيرة في قضية الهوية التي لم ولن تحسم من خلال التواضع والاتفاق، يجب أن ننتبه إلى أن الهوية كسؤال وكقضية لا تطرح في أي مجتمع من المجتمعات إلا في ظل أزمة. أي مجتمع مستقر موفور الحريات ويتمتع بنظام سياسي يحظى بالمقبولية ويتيح إدارة الصراع وتداول السلطة بشكل سلمي لا ينطرح فيه سؤال الهوية.
سؤال الهوية لا يتعلق في المقام الأول في هذا السياق بصيغة: من أنا؟؟ ولكن بمحاولة تحديد واستنكار الشخص أن يكون الآخر.
"ما لست أنا"..
وبما أننا في لحظة أزمة حقيقية تضرب جذورها إلى ما قبل الاستقلال واستمرت طوال هذه العقود فليس من المستغرب أن تثير حملة الثوب الأبيض لدى الكثيرين الذين يقعون في موقع "الآخر" أن تثير حساسية قرون الاستشعار لديه قائلا:
"أنا لست هذه الوجوه، ولا هذه الملامح ولا الثياب، ولا الألوان". ربما يكون هذا لسان حال لابسات الجرجار، اللاو، الدرع، الجينز والتي شيرت، أو أي قطع ملابس يومية مفارقة لهيئة الثوب.
(3)
تقول تقنيات التسويق والعلاقات العامة، إن أردت أن تبرز قضية فحاول تجسيدها من خلال شخص من لحم ودم، لأن الأفكار والمفاهيم والمنتجات التي يراد تسويقها تكون لاشياء غير عينية وغير ملموسة. حملة الثوب الأبيض أظهرت شريحة من السودانيات اللواتي لديهن خدمة انترنت، نلن حظا من التعليم متفاوت، حاضرات في مواقع التواصل الاجتماعي. نساء سمراوات حسنات الهيئة باسمات الوجوه، في ثياب بيضاء ناصعة ونظيفة. هذه الصورة البصرية والرسالة المصاحبة لها تقول: نحن الثورة، نحن أصحاب الحق والمصلحة في التغيير. هيئة هؤلاء النساء لا تشير في رمزيتها نحو الحاضر ولكن نحو المستقبل.
ولكن تشاء المفارقة إنتباه عدد من الناشطات للوجوه والهيئات والثياب الغائبة عن هذه الحملة. وتولين نشر صور نساء لا تراها إلا في ملصقات منظمات العون الإنساني. نساء بوجوه احرقتها الشمس واتلفتها، يلبسن ما وقع مصادفة في حوزتهن من ملابس ليست على المقاس تماما وبألوان ذات ألوان ليست بالضرورة في خط واحد مع الذوق الغالب. حمراء فاقعة وزرقاء وخضراء وصفراء.. يحملن على رؤوسهن جرار ماء، حزم من الحطب أو بقجة أغراض. تميزهن الدموع النازلة بسخاء ربما بسبب فقد زوج أو طفل، أو بسبب ما لقينه من انتهاك جسدي وعنف.
هذه هي صورة أخرى أيضا لصاحبات المصلحة في زوال النظام الغائبات عن المشهد والحملة، المحرومات من التغزل في ثيابهن وحلاوة قسماتهن.
جرت العادة أنك حين تتبنى قضية مظلوم فإنك ترفع صورته، لا صورتك أنت. أي نعم ظلم المرأة في عهد الإنقاذ وانتهاك جسدها وكرامتها شمل النساء في العاصمة والمدن الكبيرة والأرياف، ولكن ما حدث في الأرياف والأطراف خاصة مناطق الحرب الحالية لم يسبق له أصاب امرأة سودانية طوال فترات التاريخ المظلمة التي مرت بها بلادنا، وبشكل يومي وواسع ومستمر منذ بداية الإنقاذ وسياستها العرقية التي استنتها. كل ذلك بعيدا عن أعين الكاميرات ووسائل التواصل الاجتماعي. والأنكى أن ما يصل بالفعل ويظهر من خلال هذه الوسائل يقابل بالتجاهل غالبا، أو الانكار والتشكيك في صحته بشكل مؤذي من البعض.
(4)
الوقوف أمام الكاميرا بملابس يحبها القلب فعل برئ. ولكن داخل سياق مشحون بالصراع يمكن لهذا الفعل البرئ أن ينضاف لسلسة أفعال ذات سياق مختلف تماما، من خلال التحور والتشوه الذي يصيب الرسالة التي أرادت هؤلاء الناشطات حسنات النوايا ارسالها.
الصورة الفوتوغرافية رسالة قابلة للتفسير ولكن أدوات تفسيرها توجد خارج هذه الصورة. توجد في السياق الاجتماعي والتاريخي وذهنية المتلقي المفسر وأدواته ومعرفته التي يمتلكها. الغالب أن هنالك درجة تسمى درجة الانحراف في تفسير الرسالة تطيش فيها المعاني إلا ما لا يريد المرسل. وكلما انفرجت الزاوية كلما كان التفسير في الجانب غير المراد من الغرض الأساسي للرسالة.
محاولات قمع الحديث حول هذه الالتباسات وتبسيطها في (الحصة ثورة) و (ده ما وقته) يمهد الطريق لصمت شامل وغير منتج يتيح للتطورات غير المحمودة في مسار الثورة بالحدوث لصالح سارقي الثورات وأصحاب المصالح في أن يكون التغيير محدودا، أو مبقيا على توازنات القوى والتحالفات القديمة كما هي، وهي ذات التوازنات والتحالفات التي جلعت قدوم الإنقاذ ممكنا وبقائها ميسرا كل هذه العقود.
|
خدمات المحتوى
|
إبراهيم حمودة
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|