المقالات
السياسة
القضاء والمترفون..
القضاء والمترفون..
03-15-2019 07:33 AM

يروى أن ونستون تشرشل عندما رأى الدمار الذي نال البنى التحتية لبلاده، أخذ يتجول بين الأنقاض وقلبه يتمزق ألماً من هول ما يشاهد، ما كان منه إلا أن أشعل سجارته العجيبة، ثم شفط شفطة طويلة ونفث دخانها بِحُرقة، والتفت إلى أحد مستشاريه وسأله بصوتٍ مُتحشرِج عن حال القضاء، فأجابه الأخير أن القضاء بخير، هنا انفرجت أساريره وأطفأه سجارته وقال قولته المشهورة (طالما أن القضاء والعدالة بخير فكل البلد بخير).

وفي فرنسا العدو اللدود لانجلترا ورغم حرب المائة عام وحرب السبعة أعوام ومشاعر العداء التي مازالت بينهم، حتى قيل ما التقى فرنسي بانجليزي إلا (وحدَّر) أحدهما للآخر، إلا أن الرئيس الفرنسي شارل ديجول عندما رأى حجم الدمار لم يملك إلا أن قذف بالقارورة التي أفرغها في جوفه وهو يلعن في هتلر ويقول (إذا كان القضاء بخير ففرنسا في أمان، فهو الدعامة الأساسية للنهوض بالدولة)، ولسان حاله يقول الحق حق ولو جاء على لسان انجليزي.

فلا ندري هل وقع حافر ديغول على حافر تشرشل كما تقول العرب، أم أن القول محض استقراء حال من صُنَّاع المقولات، مهما يكن من أمر، فالقضاء والعدل يقيناً هما أساس وجود الانسان، وهما ما يمنحانه صفة (إنسان)، العدل قيمة فطرية بديهية يعرفها كل الناس، ولا ينكرها إلا ثلةٌ من العلماء، اتخذوا سلاطين زمانهم أنبياء، وأوجبوا طاعة الحاكم الظالم الفاسق وإن جلد وسرق ونهب والرضى بأحكام قضائه (كيه بس في العوام)..

العدل ليس قيمة راقية فقط، وانما هو قانون وجودي كوني، دونه لا تستقيم الحياة ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، فهلاك القرى لا يكون بارادة إلهية منبتة عن أسبابها الدنيوية، وإلا لرُزئنا في العدل الالهي والعياذ بالله، كلمة (أمرنا) أياً كان تأويلها من الإمارة أم التكثير فهي تشير إلى سطوة (المترفين) وهم الطبقة الطفيلية التي تعتاش على دماء الشعوب، ولا تخضع للمسائلة، نسبةً لتوسدها أحضان السلطان.

المترفون هم الذين لا يُسألون عما يفعلون، هم مستجدو النعمة، يأتون إلى ديوان السلطة عليهم أسمال، يسألون الناس إلحافاً، سيماهم في وجوههم من أثر الفاقة والعوز، وعلى حين غفلة يصبحون أصحاب الدور والقصور، فيعيثوا في الدولة فساداً، فتنهار نظم الدولة الاقتصادية ووسائل انتاجها، وعندما تُفلس الدولة ولا تجد هذه الطبقة ما تنهبه، تتحول إلى قطيع من الضباع يأكل نفسه.

لذلك كان الخطاب الإلهي كونياً للناس كافة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، وكل حاكم أو قاضٍ أومسؤول لا يتقيد بهذا الأمر فمصيره إلى دمار، ولو بعد حين، وإن صلى وزكى وصام وحج البيت واعتمر وبنى المساجد وزينها بالثريات والمكيفات وأطلق اللحية واستاك بعود من أرض الحرمين.

استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية والتشريعية ليس ترفاً سياسياً ولا تشدقاً اجوف بمقولة (الفصل بين السلطات)، إنما هو ضرورة بقاء وشرط وجود، فالقاضي واقفاً كان (المحامي) أو جالساً (القاضي) على عاتقه تقع مسؤولية بقاء الدول (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ)...

[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 492

خدمات المحتوى


صديق النعمة الطيب
صديق النعمة الطيب

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة