المقالات
السياسة
في ذكرى رحيل الترابي: هل ترك فينا مفتاحاً لثنائية العلمانية والدينية
في ذكرى رحيل الترابي: هل ترك فينا مفتاحاً لثنائية العلمانية والدينية
03-16-2019 02:26 PM

مرت بيوم الخامس من مارس الجاري الذكرى الثالثة لرحيل الدكتور حسن الترابي عن دنيانا. وتصادف أن سألني في هذه الأيام سائل عن فقه الحكم متى حلّت الإنقاذ عن سمائنا. وواضح أن وجهة الثورة هي استبدال الإنقاذ بدولة مدنية حتى لا نقول علمانية. وبدا لي أن السائل مشفق من جهة هذا الكائن المسمى "دولة مدنية". وأراد أن يطمئن أن هذه الدولة ليست خصماً للإسلام ولا خصماً منه. وتصادف أن كان هذا السؤال شاغلي لعقود سعيت فيها للخروج بنا من ثنائية علماني-ديني التي وقعنا مغمضي الفكر في براثنها بينما هي صناعة كشفت النقاب عن تاريخها في كتابي "الشريعة والحداثة". وقد أعود إليها. ووجدت في اجتهادات أخيرة للترابي مادة حسنة لصقل أدوات هدمي للثنائية وتجسير ما بين أطرافها.

لو قرأت فصل الحركة الإسلامية من كتابي "بئر معطلة وقصر مشيد" سترى كيف اضطربت الحركة بمشروعها المركزي في التمكين لشرع الله الذي تؤوب به الدولة الي الدين عن طريق التراضي على دستور إسلامي أو فرضه. وقد استبدت بها هذه الفكرة استبداداً لم تحسن به تنزيلها بلطف وسداد في الوطن. ومن أراد التوسعة عن حصاد الحركة الإسلامية المؤسف من مشروعها في تديين الدولة فليقرأ كتب الدكتور البوني في هذا الباب.

بعد هذا التيه الدستوري والعقدي المشاهد جاء الترابي بفقه في علاقة الشريعة والحكم يستحق الوقوف عنده متى أردنا تجاوز الثنائية العقيمة: دولة للشريعة أو دولة علمانية. وبدأ فقهه بإضافة "الدولة" كركن من أركان الاجتهاد في الشريعة إلى جانب مصادره الأخرى المعروفة. وكان هذا بعض أسباب تكفير الدكتور جعفر شيخ إدريس، رفيقه اللدود منذ ستينات القرن الماضي، له في التسعينات. فمؤدى اجتهاد الدولة، في رأي الترابي، في تَنَزٌل الشريعة، كمصدر للتشريع، من خلال سلطة الدولة التشريعية المنتخبة مثل الجمعيات التأسيسية والبرلمانات.

أراد الترابي بجعل الدولة منصة اجتهاد لجم طبقتين من المثقفين عن التشريع كفاحاً هما صفوة الثقافة الحداثية وطبقة الفقهاء رجال الدين. وسنؤجل النظر في مآخذه على الطبقة الحداثية كمشرع. وستجده صب جام نقده على رجال الدين الذين هم في نظره فئة طرأت عليه وليست منه. فهي عنده من "أمراض التدين" الذي هو، خلافاً للدين الأصل، حصيلة كسب المسلمين التاريخي. ومن رأيه أن هذه المشيخية استلبت التشريع من الدولة ومن الأمة جمعاء وجعلته حكراً لها تقرر وحدها فيما يوافق الدين من الحادثات وما لا يوافقه.

وسعى الترابي من الجهة النظرية إلى شكم هذه الطبقة في حركته الإسلامية وفي الدولة. فجردها من سلطات ثلاث كانت سبب وجودها وشوكتها. أولهما احتكار الفٌتيا في مسائل ابتلاء المسلمين بالحداثة دون سائر المثقفين والمهنيين. وثانيهما رفعه للمذاهب (شافعية ومالكية إلخ) والنحل الإسلامية (شيعة وسنة) التي وصفها بأنها من التدين لا من الدين. وثالث السلطات هو الزعم بعصر ذهبي إسلامي مضى ولم يبق لنا سوى أن نكون سدنة نحفظ بقية الدين. فمن عقيدة الترابي أن هذا العصر الذهبي في رحم المستقبل لا في الماضي. أما من جهة الممارسة فقد سعى الترابي لكيلا تستقل المشيخة بمنظمة سلطانية قابضة. فقد وقف بقوة ضد قيام المجمع الفقهي بالخرطوم بعد قيام دولة الإنقاذ حتى لا يطرأ لأهله، من فوق هذا المنبر السلطاني، أنهم سدنة التشريعً يجترحونه غير مبالين بضروب علوم الدنيا الأخرى. ولم يقم المجمع الفقهي الكائن إلا بعد خسران الترابي في مفاصلة الحركة الإسلامية المعروفة في 1999.

لن يجد معارضو جعل الشريعة مصدراً (أساسياً أو سواه) للتشريع حجة عليها طالما اقترن تنزيلها من خلال مؤسسة التشريع في الدولة-الأمة. فمتى اتفق لهؤلاء المعارضين هذا التنزيل المؤسسي للشريعة أمنوا من خوف المباغتة. فقد جاءتنا شريعة نميري في 1983 بليل تهامس بها "رجلان وامرأة"، في قول الدكتور منصور خالد، من ناشئة القانونيين حذرهم نميري من الخوض في أمرها مع الترابي كما هو معروف. وجاءتنا في 1989 كأمر واقع لاغتصاب الحركة الإسلامية الحكم بليل أليل.

ومتى صرنا إلى تنزيل الشريعة بطرائق البرلمانية سيزول الحاجز النفسي حيالها بين العلمانيين. فهذا الإجراء سيخلي وفاض حججهم عليها. فالشريعة هي تقليدنا القانوني الذي لا مندوحة منه. وأقباس عدالتها واضحة ومشرقة كما بينت في كتابي "الشريعة والحداثة". فمن اعترض على بعض أنماط العقوبات فيها وجب أن يتذكر أنه لم تمنع غلظة القانون الروماني من أن يكون المرجع في بلاد تعد في أقاليم النور مثل فرنسا. وقد نبه الي ذلك بصفاء مولانا المرحوم مدثر الحجاز في مذكرة له عام 1956 يلتمس من لجنة الدستور اصطحاب الشريعة في عملها.

ماذا نعني بتنزيل الشريعة برلمانياً؟ من حسن الطالع أن لنا تجربة في هذا الخصوص كان بطلها الأستاذ على محمود حسنين النائب عن منطقة دنقلا في برلمان 1968. فقد تقدم للبرلمان بمشروع قانون لمحاربة البغاء استجابة لما ثار في دوائر في المجتمع من ضيق بالبغاء العلني كأثر استعماري. ويقف هذا القانون فريداً في بابه. فمن بين كل التشريعات التي تمسحت بالشريعة كان قانون حسنين وحده الذي أجازه برلمان منتخب في قراءات عديدة. وقدم له حسنين بمذكرة تفسيرية مخدومة مهنياً بصورة لافته أراد بها تأسيس قاعدة خلقية شرعية تستبدل القانون الاستعماري الذي شرّع للمسلمين في السودان كأمة لا خِلاق لها. فخلافاً لشرعنا لم يجرم القانون الوضعي تعاطي الرجل والمرأة الغريبين الجنس طالما وافقهما ذلك. وقال إن الانجليز في بلادهم لا يحرمون مثل هذا التعاطي للجنس الا إذا داخله ثمن مقبوض. ولم يكترث الانجليز حتى بتضمين هذا الاحتراز في قانونهم، أو انهم لم يَجِدوا في تطبيق القانون بشدة حتى ازدهرت دور البغاء. وكانت نشأت أصلاً لراحة جنود الجيش الإنجليزي. ولذا ألزموها بقيود صحية منها الكشف الصحي الدوري على البغايا لسلامة الزبائن.

ليس من بعد عرض التشريع على البرلمان، الذي السلطان فيه للشعب، وجه للاحتجاج على أي مشروع فكري ناهيك عن الإسلام. فحتى نحن الشيوعيين قررنا منذ مؤتمرنا الثالث (1956) أن يكون تنزيل الاشتراكية عن طريق البرلمان بمعني قبولنا الصبر عليها حتى تلقى تشريعاتها القبول من الأمة. ولكن خرج علينا منا من سارع إلى الحكم متأبطاً بندقية والباقي تاريخ. من جهة أخرى، ستجد الترابي التزم بمفهومه بالشريعة البرلمانية في دستور 1998 حيث عقد، بعد تقرير أن الشريعة وإجماع الأمة هي مصادر التشريع (المادة 65)، للبرلمان اختصاص التشريع بقوله "يمثل المجلس الوطني الإرادة الشعبية في التشريع والتخطيط ومراقبة التنفيذ والمحاسبة، والتعبئة الاجتماعية والسياسية العامة" (المادة 73).

لقد ترك الترابي، مهما كان الرأي فيه، مفتاحاً لتجاوز ثنائية العلماني والديني. وبقول الفلاسفة جاءنا بتركيب لتجاوز الأطروحة (الدولة الدينية) والأطروحة النقيض (الدولة العلمانية). وهذا من علم الجدل.





تعليقات 7 | إهداء 0 | زيارات 1006

خدمات المحتوى


التعليقات
#1817941 [وطني]
0.00/5 (0 صوت)

03-18-2019 10:45 PM
عيب عليك يا رجل توسخ طريقك وتمشي مع من تربوا في الخداع وصور الماضي ولم يفهموا الواقع وقوانينه الفقه علم بشري لقضايا من عاش في وقتها ياريت تطلع لنا بعلم جديد يتجاوز الغلاط.
لا توسخ تاريخك مع اوهام الكيزان انت ابن عطبرة ولم تربي ع حقد وغشاوة واستهبال


#1817877 [Saidg]
0.00/5 (0 صوت)

03-18-2019 01:54 PM
عبدالله علي ابراهيم، يتكيئ بيده اليسار على كتف عبدالخالق وبيده اليمين على كتف الترابي حتى يستطيع ان يقول هاانذا.


#1817786 [ترهاقا]
0.00/5 (0 صوت)

03-18-2019 07:22 AM
(متى صرنا الى تنزيل الشريعة بطرائق برلمانية سيزول الحاجز النفسى حيالها بين العلمانيين)

اها القصة بس حاجز نفسى يازول انت طلقتا خلاص وخرفتا عديل


#1817778 [ترهاقا]
0.00/5 (0 صوت)

03-18-2019 06:16 AM
يكتب ويذكر بانقلاب الحزب الشيوعى على الشرعية...ويكتب (سنجد ان الترابى التزم بمفهمومه بالشريعة البرلمانية فى الدستور سنة 98...يارب سنة 89 مشت وين يا مفكر يا تاريخى


#1817741 [كوبرا المنشية]
0.00/5 (0 صوت)

03-17-2019 09:05 PM
إنت يا عبد الله علي إبراهيم فقدت بوصلتك تماماً وبقيت تلعب كورة شراب على كبرك وشيبك، ما عرفناك راكز على جهة، فمرة أستاذنا عبد الخالق ومرة سيدي علي ومرة مولاي الخليفة التعايشي ومرة كوبرا المنشية تأتي عفو الخاطر وتجد لها مكاناً في قلب عبد الله فتلتف داخله. يكفينا يا حبيب آخر تعليق للدكتور حيدر إبراهيم أن الترابي ليس مفكراً ولا مثقفاً ونضيف من عندنا أن الترابي مجرد زلنطحي سياسي يستغل السياسة للوجاهة وشوفوني يا ناس وبايعوني أنا بقيت زول بجيب رأس العساكر وبحتكر المال والإعلام وأحيي واميت على طريقة النمرود بن كنعان.


#1817685 [كمال ابو القاسم محمد]
0.00/5 (0 صوت)

03-17-2019 11:59 AM
....في ذكرى رحيل الفطيس الجيفة...ينكد علينا عبالله علي ابراهيم استغفر الله..يا دكتور....معقول انت كتبت الكلام الفوق دا...وبكامل وعيك....وكمان (احياءا لذكرى الفطيس الجيفة حسن عبدالله دون كيرليوني)...والتي داسها الحراك بكل تفاصيلها بالشعار الكاسح لكل مخلفات ومشاريع وشعارات وهتافات وكتابات واحبار الجيفةوتنابلته وتلامذته وحيرانه الجدد القادمين من بالوعات (النهزة الرخيصة)ومن فضاءات تجاهل عذابات شعوبهم...والمتلقين لجوائز النظام مهما (تهافتت وتفهت)...نعم الشعار العارم (تسقط بس)....كم أتحسر (للؤمِ في دواخلي على موت الفطيس الجيفة في هذا الميقات الحارق على حافة الحراك!!!)....على الاقل كنا حينها سنهتف عاليا(لن يحكمنا الشيخ اللو....) الشيخ الذي اتوقع بل (اؤمن) بأنه يرتع الآن في أسفل سافلين ...وقعر قيعان جهنم والجحيم....!!!
ألا تستحي يا عبدالله
أظن الشيخ (اللو....) نفسه وهو في جحيمه اللافح ،وشماتة خصومه وضحاياه في الجانب الاخر من النعيم....يقول بينه وبين نفسه(شكيتك لى الله يا عبدالله ياود علي ابراهيم ...الناس نسوني ناسي وكيزاني.. حتى اولادي وجماعتي...وانت يا الماركسي القديم... جايبني كمان عنوان....في جبانتنا ما مريحننا!!!!)
الناس شابكاني تسقط...وانت يا عبدالله لسااااااتك ب(تلقط)...!!!

يا عبدالله انت بتغش منو....يعني (الهناية دي....كحلتها)....هههههه!!!
ولا نقول الا كما كان يقول صاحبك (آية الله العظمى)!!!البوني (الذي جعلته مرجعا!!!)و(صاحب كتب!!)....في ختام مقالاته...(أيام الشبع والدشة)....وهو كما كان يدعي (حاطب ليل!!!)
أنا ما بفسر....وانت ما بتقصر!!!!
تسقط تسقط بس....تسقط من الفها والى يائها....وكمان حتسقط بشروط (الحراكيون) والأيام بيننا....نعم انا كمال ابوالقاسم محمد...ستسقط وسيسقط كل المشروع الموهوم والمرموم والهايف بالجملة والتفصيل ...رغمك...ورغم هتافيات وتهديدات (ابن عمك على عثمان وهتافيات قريبك ربيع عاطي عبيد ازيرق) وجعصات ومصمصات شفايف وبكائيات (حسين خجلتينا الأخيرة)....المثيرة للقرف!!!
ورغم مرور الذكرى المنسية للفطيس الجيفة الشيخ اللو....الذي تذكره المرشح الرئاسي السابق(لزعامة الجمهورية المنكوبة) عبدالله على ابراهيم!

قال ذكرى رحيل الترابي....قال....هههههه....ألا تستحي ياعبدالله...!!!


#1817577 [قنوط ميسزوري]
0.00/5 (0 صوت)

03-16-2019 04:20 PM
لا حول ولا قوة إلا بالله


عبد الله علي إبراهيم
عبد الله علي إبراهيم

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة