المقالات
السياسة
ود المطرة - قصة قصيرة
ود المطرة - قصة قصيرة
03-28-2019 01:32 PM

ود المطرة

تتساءل عن سر جلوسنا الدائم على هذه الرمال الحارقة . نحن ننتظره يا بنى ، نحلم أن يخرج لنا من بين تلافيف الرمال أو من ثنيّات السراب البعيد . اجلس معنا قليلا و دعني أحكى لك عنه : عن روح القرية التي أزهقوها . لا نعرف يا بني من أين أتى هو على وجه التحديد ، مثله مثل الشمس التي تشرق علينا كل صباح . منذ طفولتنا و نحن نطلق عليه " ود المطرة " . حكى لي أجدادي أن قريتنا كانت - قديما - بقعة مجدبة لا يكاد يلتفت إليها أحد . حتى عابري السبيل كانوا لا يأبهون بها ، و لذا أطلق عليها سكان القرى المجاورة اسم " موت الراكب " . كنا يا بنى نعيش في بيوت من طين و قش ، لا تكاد تقينا شراسة زمهرير الشتاء و لا وحشية شمس الصيف . كانت "رواكيبنا" مشاوير من غم تقود إلى بيوت أجداث ، كانت مزارعنا لا تخضر إلا بأعجوبة ، و لا تكاد أرض أحدنا تنبت شيئا من الخيرات حتى تلم بها مصيبة من المصائب : بهائم تقضى على الأخضر و اليابس ، أو شمس ظامئة الشعاع تورث النبت اصفرارا لا نجاة منه ، أو حتى بخل من غيوم السماء التي تلوح في الأفق لدقائق ، و تعلل مزارعنا قليلا بالوصل ثم تحزم حقائبها و تيمم شطر بلدان أخرى . بل إنه ذات خريف حطمت صاعقة مدرسة القرية الوحيدة صعيدا زلقا و أسقطت جزءا من سور خلوة القرآن التي كان يرتادها بعض صبيتنا مما جعل بعض ضعاف النفوس يتذمرون . جعنا يا بنى حتى نسينا طعم الأكل ، ظمئنا حتى بهتت في ذاوكر شفاهنا ملامح الماء ، و أصبنا بالعرى حتى حسب بعضنا أن العرى هو الأصل في الإنسان . صار صغارنا يتسولون "اللوارى" التي تسلك الدروب المؤدية إلى مشارف القرية الجنوبية فلا يلقون سوى غبار الإطارات و صيحات استهجان المسافرين . تهدمت بيوتنا و جفت ضروع بهائمنا فكفت بقية القرى عن مصاهرتنا . أذكر مرة أن رجلا من قرية مجاورة تزوج منا ، لكنه طلق عروسته بعد يومين لأنه لم يحتمل سخرية أهله منه حين علموا بأصلها. كما أذكر أنه ذات يوم ذهب ابن أخ لي خاطبا حسناء من قرية مجاورة . استقبله أهلها بترحاب و استبشار ، لكن والدها – و حين علم أن صهر المستقبل هو من قرية " موت الراكب " – خلع حذائه و رمى به فى وجع العريس المسكين ، و شفتاه ترسلان أرتالا من سباب . بل – و أصدقك القول يا بنى - أن الحكام صاروا لا يمرون على قريتنا في حملاتهم الانتخابية تلك التي يكذبون فيها حتى على الحجر و يستجدون فيها حتى أصوات الصمت ! مرت بنا سنوات عجاف ، فرحل عن القرية من رحل و توفى من توفى و جن من جن . ثم استيقظنا ذات صباح فإذا بطيف يلوح لنا قادما من بعيد .جاء الصغار مهرولين و هم يتصايحون " غريب ، غريب " . هرت ما تبقى من كليباتنا العجفاء ، زغردت هياكل من نسميهن ترفقا بنسائنا و هشت بقية أغصان صفراء في أشجار قريتنا . خرج كبارنا لاستقبال الطيف . كنت وقتها في السابعة من أكذوبة يسمونها عمرى . صافحناه لا كما نصافح ضيوفا لم نعرفهم يوما ، و لكن كما يصافح الضيف الجائع مضيفه الكريم . جلس بيننا و هو يلهث من الظمأ . نظرنا إليه فإذا به في الستينات من عمره ، أبيض الشعر ، كث الحواجب ، على جبينه أثر سجود كثيف و في عينيه وداعة و سكينة عظيمتان . قدمنا إليه بعضا من ماء عكر فاحتساه مبتسما و همس و هو يلتفت محدقا في بيوتنا المنصوبة كسرادق العزاء " إذن فهذه هي " زاد الراكب " ! التفت كل واحد منا إلى الثاني في دهشة و قال جار لنا مثقف كان يسخر من جهلنا فى جلسات " السيجة " : " عفوا . لعلك تقصد قرية أخرى ، فاسم قريتنا هو " موت الراكب " . نظر إليه الرجل المطمئن لدقيقة ، ثم اتسعت ابتسامته و هو يهتف قائلا بثقة عجيبة " بل هي " زاد الراكب " . ثم مد يده إلى حيث تنتصب الجميزة الضخمة عند طرف القرية القصيّ و قال " و هناك سيتنزل " ود المطرة " . ضحكنا في سخرية إذ حسبنا أن الرجل ملتاث معتوه ، و قال بعضنا إن الشمس تفعل بالرؤوس الأفاعيل . احتسى الرجل ماءه على عجل ، ثم انتصب واقفا كما نخلة عملاقة . أمسك بعصاه في قوة و همس و هو يبتعد في بطء كما جاء " غدا يخرج " ود المطرة " . مضى اليوم رتيبا أخرسا كبقية أيام الله. و حين هبط الليل بجناحيه على رمال القرية آوى كلنا إلى فراشة بعد أن ربط بطنه بثوب قديم اتقاء الجوع . انقضى جزء من الليل و نحن لا نسمع سوى صياح كلاب القرى المجاورة ، أو أصوات أناس تاهوا في خلاء بعيد . فجأة سمعنا صوتا عاليا يهلل . هب كل منا من سريره في دهشة . هتف الصوت " المطر ، المطر " و قبل أن نفقه ما يقول هطل على القرية مطر لم نر له مثيلا و لا في حكاوي أجدادنا القدامى . جاءنا سيل عرمرم . تعانقت البروق على صفحة السماء كإمضاء شخص على عجل ، هدرت الرعود كطبول قبائل زنجية ، رقصت السماء مع الأرض رقصة البقاء الأبدية لمدة ساعتين . و فجأة توقف المطر . و حين تنفس الصبح لم نصدق ما رأيناه : لاحت لنا المزارع في اخضرار الفأل الحسن ، لفت الشمس ذراعيها حول خصر القرية فى حنو و تمايلت أشجار لم نعرف من أين أتت مع نسيم عاشق رقيق . بدا لنا الأفق أزرقا كبحر بلا نهاية . لكن ما أثار دهشتنا هو حجر ضخم كان يرقد تحت الجميزة الضخمة . بدا لنا لامعا و كأنه خلق من البرق ، نظيفا و كأنه غسل في نبع سماوي مقدس . فرك كل منا عينيه في دهشة . كيف لم تسقط الجميزة ؟ و من أين أتى ذاك الحجر ؟ فجأة انطلقت زغرودة جارتنا الضريرة و هتفت بأعلى صوتها " ود المطرة " . لم ننتبه وقتها إلى أن سيدة ضريرة رأته ، بل ردد الجميع وراءها فى هستيرية عجيبة " ود المطرة حبابو ، ود المطرة حبابو " . أول من ركض تجاهه كان "حميدان " . كان شابا غبيا خامل الذهن ،خاض امتحانات الشهادة السودانية سبع مرات متتالية وكان يرسب بامتياز في كل مرة . اقترب من الحجر و لمسه برقة . وحين بدأ يحدثنا بعد دقائق عما أحسه ، تدفقت البلاغة من بين شفتيه ينبوعا رقراقا . ذاك العام تم قبول "حميدان " في كلية القانون !! منذ ذلك اليوم بدأ عهد جديد في قريتنا التى صار اسمها "زاد الراكب " . اخضرت مزارعنا فقامت على مشارف قريتنا مصانع عديدة ، صارت مدارسنا تعج بالوافدين من كل فج عميق ، اكتظت أسواقنا بخيرات لا تحصى ، نمت أشجارنا حتى نافست الآفاق شموخا و عنفوانا ، عرفت بطوننا اللحوم بعد الجوع و احتسينا ما لذ وطاب من مشروبات متنوعة ، سكنا فى بيوت مبنية من الطوب الأحمر و الخرصان ، صاهرنا الرجال حتى أضحت البنت منا لا تكاد تبلغ ( ضواحى ) الحلم إلا و عقد قرانها على شاب من قرية مجاورة ، عرفت بيوتنا أجهزة الكهرباء الحديثة . أصبحت خلوتنا قبلة لدارسي القرآن حتى من خارج حدود ما عرفنا أنه وطن ، انضم إلى جمعيتنا التعاونية أقوام كانوا يأنفون حتى من إلقاء التحية علينا ، غدا الذهاب الى المسجد لذة بعد أن كان واجبا ثقيلا ، تخرج العشرات من أبنائنا في كليات الطب والصيدلة و القانون . باختصار يا بنى : اغتنى كل فرد منا .، و حمل الفقر جرابه و عصاه و هجر ديارنا . بل إنه بعد أسبوع واحد فقط من انبلاج فجر " ود المطرة " ، زارنا شخص مهم في زيارة تفقدية . وقف أمامنا طويلا عريضا ممتلئا لحما و شحما . سألنا عنه أحد مرافقيه فقال في همس و عتاب "هذا الوزير الفلاني " . حدثنا ( سيادته ) عن حرصه الشديد على الاهتمام بقريتنا و بالريف المجاور لها . وعدنا بتشييد المزيد من المدارس و الشفخانات ثم قفل راجعا من حيث أتى . و أصدقك القول يا بنى إنني رأيت بأم عيني هاتين صورتي في جريدة الدولة الرسمية ذاك اليوم الذى وصفوه بالأغر . المهم ، غدا " ود المطرة " قبلة لكل صاحب حاجة : تذهب إليه العانس فتتزوج بعد أسبوع ، تقصده من أخبرها الأطباء باستحالة إنجابها فتحس باهتزاز قدمي صغيرها في غياهب رحمها بعد شهرين فقط ، يمسه المجذوم فيعود سليما معافى ، يسن التلاميذ الصغار حواف أقلامهم على حافته فيحرزوا أعلى الدرجات في مدارسهم ، ينثر مزارع قطعة منه على مزرعته المجدبة فتغدو جنة غناء فى أسبوعين ، يسقى شاب محبوبته الظلوم قطرة من ذاك السلسبيل الراكض تحت " ود المطرة " فتهيم بحبه حتى مصاف الجنون . غدا الحجر قلب بلدتنا النابض . اختفت الجرائم تماما فأغلق المخفر أبوابه و تحول العسكر إلى فلاحة الأرض . و اختفت الأمراض حتى أوشك الأطباء على نسيان مهنتهم . مضت بنا الحياة رقيقة سلسلة لأعوام عديدة حتى حل علينا ذات يوم ضيف جهلول قيل إنه مرشح حزب ما . حدثنا عن أنه يتوى – في حال اكتسح حزبه الانتخابات – أن يحرر عقولنا من سطوة " ود المطرة " . قذفناه بأحذيتنا فركض هاربا . لكن ذاك العام شهد قدوم وفد حكومي آخر إلينا. جاءنا في عربتين مدججتين بالسلاح . و قبل أن نفقه شيئا توجه بعض أفراده إلى " ود المطرة " فأمطروه وابلا من الرصاص . تطاير منه الشرر في البدء ، ثم انقسم إلى نصفين حين توالى عليه رسول الموت و الدمار . ناحت الأشجار وقتها ، لاحت على مشارف القرية رمال لم نعلم من أين أتت و تجمعت سحابة سوداء كالسخام على صفحة الأفق . بعد أسبوع واحد فقط تغير كل شيء : اندثرت المزارع و تهاوت المصانع ، احترقت الأشجار و ماتت البهائم ، عادت الجرائم ثانية إلى القرية فعاد الجنود لممارسة مهنتهم القديمة : حفظ الأمن ، ظهرت الأوبئة ثانية ، طلقت كل النساء اللوات تزوجن آناء عهد " ود المطرة " و تشرد أبناؤهن ، هجرتنا بقية القرى وعاد إلى قريتنا اسمها القديم الكئيب " موت الراكب " !! ومن يومها يا بنى ونحن نجلس سويا كل صباح على رمال القرية كما ترى ، نجوب الأفق بقلوبنا و نظراتنا و نحن نتساءل بحسرة " أترى سيعود " ود المطرة " ثانية إلينا ؟
......

مهدي يوسف
[email protected]





تعليقات 1 | إهداء 0 | زيارات 327

خدمات المحتوى


التعليقات
#1819655 [Shawgi Badri]
0.00/5 (0 صوت)

03-29-2019 08:46 AM
مهدي لك التحية . هذه القصة القصيرة روعة روعة هكذا يجب ان تكتب القصص القصيرة . ان لها رسالة وترمز الى الكثير . شكرا على هذا الاباع .


ردود على Shawgi Badri
Saudi Arabia [مهدي يوسف] 03-31-2019 07:56 AM
شكرا جزيلا أستاذي شوقي بدري ... الثناء منك يعني لي الكثير سيدى الكريم ...

ممتن لك ... كن بخير


مهدي يوسف
مهدي يوسف

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة