الوجه الواقعي لمشروع الإخوان
03-29-2019 06:00 PM
من العدل أن نصف مشروع الإسلاميين السوداني في رحلة الدين و الدنيا بأنه توقف عند محطة ( الذين آمنوا ) و لم يتجاوزها إلى محطة ( و عملوا الصالحات ) . و بحسب الدكتور ( علي الكيالي ) فإن العمل الصالح هو الذي يرفع لأن مقاصد الدين و الدنيا تتحقق به و لا تتحقق بالعمل الحسن مجرداً . فأن تذهب مبكراً إلى العمل فذلك عملٌ حسن و لكن أن تجتهد فيه و تخلص وتتفانى و تنجز منه ما يسهم في خدمة العباد و رفعة شأن البلاد فذلك هو العمل الصالح .
ففي الوقت الذي ظل فيه أهل المشروع الحضاري يفاخرون بأنه في عهدهم عمرت المساجد و تضاعفت أعداد المعتمرين و الحجاج , يلاحظ ضمور عام في فعل الخيرات و انخفاض في مستوى التكافل الاجتماعي و جمود في الحياة العامة . ذلك لأن نظرة جماعتنا إلى الصلاح الديني تقف عند عتبة الطقوس و الشعائر و لا تنفذ إلى محك قيم الكدح و العمل التي تستوجب التضحية و بذل الذات .
فبرغم أن الأثرياء السابقين لم يصيبوا عشر ما أصابه أغنياء اليوم من الثراء , إلا أن انخراطهم في عمل الخير كان له سهمه الكبير في تطور الخدمات العامة . معظم المستشفيات و المدارس و المساجد و الأندية الثقافية في الماضي شيدها رجال الأعمال الذين كان أوفرهم مالاً يمتلك مصنعاً متوسطاً للصابون أو معصرة زيوت في أحسن الأحوال . و كان معظم التجار يعولون مئات الأسر الفقيرة , يصرفون عليها طوال حياتهم دون من أو أذى . و استشعار المسئولية الاجتماعية هذا ظل عماداً للتقدم و التنمية حتى في أثرى دول العالم اليوم . و حتى الجامعات الأولى في العالم مثل هارفارد و أكسفورد و معهد ماستشوستس ظلت تعتمد على جهود الخيرين . و معظم الأبحاث العلمية المتميزة و المشروعات البحثية العملاقة تقوم على مساهمات أهل الخير . و أثرياء الغرب الذين يكسبون المال من خلال مواهبهم و علمهم و مخترعاتهم و جهدهم الشخصي الخالص يخصصون القسم الأعظم من ثرواتهم للأعمال الخيرية .
أما أهل المشروع الحضاري فقد استغلوا الثراء الذي أصابوه من خلال التمكين في تكوين طبقة جديدة تتميز عن الآخرين . فصارت لهم أزياؤهم و أحياؤهم الخاصة و أنديتهم و حتى مساجدهم و أئمتهم المختارين . اطمأنوا إلى الدنيا التي كثيرا ما صدحوا بأنهم لم يعملوا لها . و بدلا من أن يكونوا مثالا للتضحية و الإنفاق و القدوة الحسنة باتوا يرون في حاجة الناس إلى المرافق العامة فرصاً مواتية للاستثمار . فاستثمروا في المدارس و الجامعات و المستشفيات بل و المتنزهات العامة . حتى المنظمات الخيرية التي أقاموها لم تؤسس بأموالهم الخاصة مثلما يفعل الأغنياء عادة , و إنما أسسوها بالمال العام و ظلت ترضع من أثداء الدولة و مؤسساتها المالية على غرار ( من دقنو و افتلو ) و أصاب منها الكثيرون منافع عظيمة من خلال الإعفاء من الضرائب و الرسوم .
و بينما اهتدت الإنسانية إلى أن العدالة العامة تتحقق عندما يصبح الكسب مكافئا للجهد المبذول فيه عند العوام , ظل الناموس الأزلي يقول بأن كسب الخواص يجب أن يتحقق من خلال معنى أكبر من ذلك و هو التضحية . تلك التضحية التي تؤهل أصحابها لنيل الخصوصية و تقدم الصفوف جريا على قول الشاعر ( لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر و الإقدام قتال ) .
ظل أهل الإنقاذ ينظرون إلى الحكم بوصفه غنيمة و رزق ساقه الله إليهم . فانقادوا وراء الكسب السهل إلى درجة مجاهرة أحد كبار نافخي المزمار فيها ( حسين خوجلي ) ببناء قصره الفاخر من عمولة سمسرة في صفقة تخص شأناً فنيا عاماً لم يكن هو حتى من المتخصصين فيه و المشتغلين به . يحدث هذا بينما ( انجيلا ميركل ) , رئيسة الدولة التي يفوق مخصص جمع القمامة فيها الميزانية العامة لدولتنا , تعيش في شقة متواضعة و تخدم فيها نفسها بنفسها . فالرياسة و القيادة الملهمة ظلت على مر التاريخ محفوفة بأشواك البأس و الشدة التي لا يحتمل وطأتها إلا النبلاء أصحاب القيم و حملة المبادئ . و ذلك ما يفسر شيوع ثقافة الاستقالة عند الأمم الراشدة و نزوعهم إلى التخلص من عبء الوظيفة العامة متى ما حانت الفرصة لحفظ الكرامة . فخلال شهر واحد استقال من حكومة ( تيريزا ماي ) ثلاثة وزراء بشأن قضية البريكست فقط . أما الحال عندنا فبمثل ما قال الأستاذ ( مبارك الكودة ) بأن الناس يذبحون الذبائح و يقيمون الولائم عندما يستوزرون .
فالواقع أن أهل الإنقاذ لم يؤسسوا لقيم و لم يشيعوا مبادئ يمكن أن تلهم أحدا أو تؤسس لحضارة و تطور من أي نوع . بل صار حالهم أقرب إلى حال أهل الأندلس الذين انغمس أمراؤهم و علماؤهم في حياة الترف و اللهو و دعة القصور حتى أتاهم أمر الله بغتة و هم لا يشعرون . و تمدد سلطان الجاه و المال و الفساد لأنه حتى أمر الهدى و النصح و الإرشاد صار بيد من غدوا جزءاً من إمبراطورية النعيم . فباتوا لا يقدرون على قول حرف حق واحد في وجه أصغر ممثل للسلطان . أئمة منعمون ما انفكوا يتنقلون بين المساجد الفاخرة و منابر مؤسسات الولاة ينهلون من العطايا و المنح و المزايا . لا يقدمون على التضحية و لو بيوم واحد للطواف بأحياء الفقراء و اليتامى و الأرامل من المؤمنين . و لا يقطعون وادياً أو يعبرون جسراً إلا في رحلات مدفوعة القيمة من موارد الدولة و برعايتها من أجل قضايا غايتها الكسب السياسي . و قصت أجنحة السلطات الرقابية مثل الهيئات النقابية و المجالس التشريعية و الصحافة و أصاب روادها نصيباً من الترف و النعيم عندما جرت على أيديهم الأموال و سكنوا القصور و ركبوا الفارهات الجياد . و قد سارت الركبان هذه الأيام بنبأ البرلماني الشهير الذي امتلك ثلاثين قطعة أرض مميزة بالخرطوم . و بذلك تكالب الظالم و القاضي و الجلاد على قصعة المال العام .
إن الأمور لا يمكن أن تسير على هذا الاسترخاء و الخمول العام إلى الأبد . فحياة الأمم لا تستقيم دون شدة و بأس و مشقة و مدافعة و دفع للناس حتى لا تهدم صوامع و مساجد و بيع و صلوات .
مصعب الريح رشاش
[email protected]
|
خدمات المحتوى
|
مصعب الريح رشاش
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|