تسارعت الأحداث في السودان بوتيرة غير مسبوقة خلال الأيام القليلة الماضية، كما تغيرت الأوضاع بطريقة مذهلة، دون سفك دماء أو خسائر مادية أو بشرية فادحة مثلما توقع الكثيرون. وأثبت الشعب السوداني، مرة أخرى، أنه شعب ملهم، وجدير بالاحترام والريادة، كما أثبت الجيش السوداني العظيم أنه فعلاً صمام الأمان لهذا البلد مهما تفاقمت الأزمات وأدلهم الخطب، وبلغت القلوب الحناجر. فبعد أن كان التحرك الذي قاده الفريق أول عوض بن عوف قد وضع الشعب السوداني في حال من تزوجت أمه، لا تستطيع أن تبارك له أو تعبر له عن أسفك، وهو نفسه لا يستطيع الفرح ولا الحزن، فإذا بكبار ضباط القوات المسلحة يسارعون لكشف الغمة بالتدخل السريع والحاسم، مما أزال الاحتقان السياسي الذي أدخل البلاد في نفق مظلم، حيث انسدت المخارج كافة أمام شعبنا الأبي ولم يكن أمامه من خيار سوى التظاهر، ومن ثم الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، مما جعل الجيش يختار الوقوف إلى جانب الشعب وحمايته. ومن جانب آخر، يبدو أن كبار ضباط الجيش والأجهزة الأمنية والمؤسسات العسكرية الأخرى قد قرروا الوقوف مع إرادة الشعب، حسب إفادة الفريق عمر زين العابدين، رئيس اللجنة السياسية في المجلس العسكري الانتقالي، بأنهم إنما جاءوا تلبية لرغبات المحتجين من أفراد الشعب السوداني. ومهما يكن فإن الوقت ما زال مبكراً لإصدار حكم نهائي، ولكن بحسب ما أعلنه الفريق عمر زين العابدين فإن المجلس العسكري سوف يجلس مع المحتجين، و"يتفرجخ" معهم على الأرض من أجل الاستماع لرأيهم الذي سيكون بمثابة "منفستو" للمجلس العسكري الذي يسعى للتواصل مع القيادات السياسية، باستثناء المؤتمر الوطني، بغية التوصل لرؤية تصلح لتكون مرتكزاً للمرحلة الانتقالية بحيث يتحقق الاستقرار ويحفظ الأمن وتقدم الخدمات الضرورية للمواطن حيثما كان داخل السودان. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل يستجيب المحتجون كافة لدعوة المجلس العسكري للجلوس على مائدة التفاوض فعلياً؟ وهل ستكون رؤية المحتجين كافية لإخراج البلاد من عنق الزجاجة الراهن؟ وفي حالة استجابة المحتجين أو بالأحرى تجمع المهنيين، هل توافق كل الأحزاب على المشاركة في الحكومة المدنية المزمعة التي ينوي المجلس العسكري تشكيلها؟ وهل يتواصل المجلس العسكري مع الفصائل التي تحمل السلاح وقد رفضه بعضها ابتداءً؟ وبما أن تجمع المهنيين قد كشف عن قيادته التي يمثلها كادر ذو توجه أيديولوجي واضح، ومحسوب على الحركة الشعبية، قطاع الشمال، مما يعني أن هذا التجمع ليس مهنياً كما يزعم، بل هو في الواقع واجه لجهة سياسية لها أجندة معلومة، ولها ارتباطات مع دول ومنظمات ذات مواقف معروفة تجاه دولة السودان، وقد تكون لها أطماع تريد تحقيقها عبر وجود عناصرها على سدة الحكم خلال الفترة الانتقالية، فهل تطمئن كل الأحزاب، خاصة الطائفية مثل حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، والتنظيمات السياسية الأخرى ذات التوجه اليميني والجهوي، لشعارات تجمع المهنيين في الفترة المقبلة، سيما وأن هذا التجمع قد أوعز لمناصريه بعدم فض الاعتصام؟ هذا بالطبع، وضع يتطلب قدراً عالياً من الحصافة والحنكة لدى المجلس العسكري بحيث لا تتكرر تجربة أكتوبر عندما استطاعت المكونات اليسارية خداع الناس بمسمي جبهة الهيئات التي كانت المركبة التي حملت كثيراً من عناصرها إلى مقاعد حكومة سر الختم الخليفة. بشكل عام، ينبغي على المجلس العسكري الالتزام بالحياد التام من حيث التوجه السياسي، ويجب عليه في ذات الوقت تحقيق أهداف هذا التحرك أو التغيير المتمثلة في الحفاظ على الأمن والاستقرار وتهيئة المناخ لانتخابات حرة ونزيهة بنهاية الفترة الانتقالية؛ حتى تخرج البلاد معافاة من هذه التجربة الصعبة التي كادت تعصف بوحدة التراب والمجتمع السوداني، وفي هذا الصدد ينبغي عدم إقصاء أي جهة أو حزب من المشاركة في العملية السياسية وإلا عادت البلاد لدوامة العنف والعنف المضاد وسيكون الأمر كأن "أبو زيد لا غزا ولا شاف الغزو". وفي حال تشكيل حكومة مدنية، هل سيكون لها كامل الحرية في اتخاذ القرارات السياسية والتنفيذية بحيث تقوم بالواجبات المنوطة بها حتى تمهد الطريق لانتخابات حرة ونزيهة بنهاية الفترة الانتقالية التي حددها المجلس العسكري بعامين، قد تزيد أو تنقص حسبما يشير بذلك المحتجون عند التشاور مع قيادة المجلس العسكري؟ كنت أتمنى على قادة المجلس العسكري عدم الإذعان التام لكافة الشعارات المرفوعة الآن مهما كانت براقة وذات صدى واسع في أوساط المجتمع؛ لأن الشعارات لا تبني الأوطان وإنما تبينها عزائم الرجال والبرامج والخطط المدروسة للاستفادة من موارد البلاد وكوادرها البشرية، وهذا يقتضي اتباع معايير دقيقة، بعيداً عن المحاصصة، بحيث يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويكون هنالك تجانس بين أعضاء الجهاز التنفيذي حتى نتفادى الأخطاء التي حدثت إبان الحكومات الانتقالية السابقة. ويجب أن تكون أولويات الحكومة الانتقالية هي إعادة ترتيب البيت السوداني سياسياً واجتماعياً والالتفات للوضع الاقتصادي والأمني، وبناء مؤسسات الدولة والخدمة المدنية، دون تصفية الحسابات، مع السماح بسيادة القانون وحرية القضاء.
المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.