وقفة على طلل الطاغية البالي
04-28-2019 09:05 PM
وقفةٌ على طللِ الطاغيةِ البالي
غريبٌ يؤدي الخمسَ من صلواتهِ ولا ذمةً في القومِ يرعــى ولا إلّا
أيؤذي سواهُ تحت ظلّ صلاتـــــهِ ويحسبُها تُرضي إله الورى؟ كلا
إذا لم تُنهْنِهْنا صــــلاةٌ عن الأذى فلا سلم المولى علينا ولا صلـــى
"شاعر مصري مغمور"
سيف الدين عبد الحميد
مثلت المائة وثلاثة عشر يوماً (19 ديسمبر 2018 – 11 أبريل 2019م) فترة تاريخية فريدة غير مسبوقة في تاريخ السودان القديم والحديث. إنها فترة اختزلت كل الأحداث التاريخية السودانية في جوفها، فترة لا استطيع تشبيهها إلا بالانفجار العظيم (البق بانق) Big Bang الذي تلا حالة الشَّواش Chaos ليصنع مادة الكون الأولى التي تمخضت عن المجرات والأجسام الكونية الهائلة. لم ينقض نهار يوم التاسع عشر من ديسمبر حتى ارتفعت فجأة ودون سابق إنذار درجات الحرارة الثورية في عز الشتاء وظلت ملتهبة قرابة الأربعة أشهر بحيث خلفت السُّدُم التي انتظمت الأجواء وتخللتها قعقعات السلاح وفرقعات الرصاص والهدير البشري الصاخب حتى اتت على نظامٍ هولاكويٍّ عنيد ما كان لأي قوة ماحقة أن تمحقه وتسحقه حتى أرانا الله سره في ما نراهم أضعف خلقه من شبابٍ اتخذ سبيله في الشوارع سَرَبا ولم يلتفت وراءه حتى اقتلع طاغية العصر الذي ظن أنه مانعته حصونه من الطوفان الثوري الكاسح. لقد ظل الطاغية لزمن طويل يفتل حبائله ويضرب قوة بقوة ويضرب هذا بذاك ويقوم بعملية تركيب المليشيات وتفكيكها، وما درى الطاغية أن الحذِر قد يؤتى من مأمنه تماماً كما لم يدرِ شيخُه ووليُّ نعمته عندما انفرد به ذات ليلة من ليالي يونيو 1989م ليشجعه على تنفيذ انقلابهم بيد أن كلا الشيخ والحُوار لم يطّلعا على بيت المتنبئ الشهير:
ومن يجعل الضرغامَ للصيد بازه *** تصيده الضرغامُ في ما تصيدا
أطلق الشيخ العَجُول الأسد من عرينه ليصطاد به عناصر الأحزاب لكي تخلو له الساحة السياسية الخربة فيُعمل فيها أدواته التمكينية سلخاً وتقطيعاً وتم له ما أراد، لكن الشيخ الصياد لم يكن يدري أن الضرغام الذي اصطاد له طرائد الأحزاب كان على مقربةٍ منه ونيوبه بارزة بحيث ظن الصائد أن الليث يبتسمُ. مرت الأيام ورأى حاكم الحكام وجنكيز خان عصره أن الخير كل الخير في تحصين نفسه من الهبات والثورات ومن أقدار السماء فشرع في تكوين المليشيات وعسكرة الأرض والسماء حتى أراه من في السماء أن "كعب آخيله" يكمن في صناعته المليشياوية فأرسل له جنوداً من وادي هور دعتهم السماء بلسان الحال ودعاهم الطاغية بلسان المقال "أن هلموا لحمايتي وقطع دابر المعتصمين". ألم يكن هؤلاء الجنود هم ذات الضراغم الذين بثهم في دارفور والصحراء الليبية وصحراء بيوضة بل وفي الخرطوم لحمايته؟ ولكن أتاه أمر الله بياتاً ومن حيث لا يحتسب، فانظر كيف افترى الطاغية على المذهب المالكي بفتواه الافتئاتية التي أوحى له بها قرينه السفلي فرمى بها بكل وقاحة لقائد قوات الدعم السريع تحريضاً على قتل الثوار ولكن قائد قوات الدعم السريع الذي أحس بالمسؤولية الإنسانية والأخلاقية قال لنفسه "حسبي الله ونعم الوكيل" وتأويلها "هذا فراق ما بيني وبينك يا بشير"، فالتفَّ الحبل على فاتله من حيث أراد الفاتل إنقاذ نفسه من غضبة المعتصمين.
لقد أصبحت ساحة الاعتصام الكائنة أمام القيادة العامة لقوات شعبنا المسلحة "بانوراما" رائعة لتاريخ وجغرافية الخرطوم بل للسودان كله حيث استحضر الموقف الشبابي فيها كل مراحل التحرر الوطني بدءاً من جمعية الاتحاد وحركة اللواء الأبيض في مطلع عشرينيات القرن الماضي ومؤتمر الخريجين بنهاية ثلاثينياته ومشهد استقلال السودان منتصف خمسينياته، فكل عصارة تاريخ السودان انسكبت في ميدان الاعتصام حتى ناء التاريخ بكلكله وكاد يقول "لقد وضعتُ رحلي هنا" تأسياً ببيت شوقي:
لا أمسُ من عُمْرِ الزمانِ ولا غدٌ *** جُمع الزمانُ فكان يومُ لقاك
هذا الموقف الاعتصامي النبيل جديرٌ بنا أن نجعل منه نواة لحزب سوداني جديد اسمه "حزب الاعتصام الثوري" بكل برامجه المطروحة لدى قادته وكل تصوراته الشبابية وتطلعاته المستقبلية، نريده حزباً ينتمي إليه كل الحزبيين القدامى والجدد، حزباً يمسك بعصا التسيار يشق بها واثقاً لجج السياسة الدولية الخارجية المتعرجة، حزباً جامعاً مانعاً بناءً هدفه الإنسان السوداني، حزباً يتجاوز كل مخلفات الماضي الحزبية التي ظلت تستند على التعصب الآيديولوجي المنغلق والانتماء الطائفي الأعمى وما تجربة الإنقاذ الثلاثينية الشائهة التائهة إلا دليلٌ على هذا التعصب المنغلق حيث لم نرَ من الآيديولوجيا الترابية الجوفاء إلا شاهقات العمارات وفارهات السيارات وتعدد الزيجات وكثرة السفريات حتى حارب الترابيون الثقافة والحقول الثقافية حرباً مغولية تترية مما شهد عليه أحد المحللين السياسيين المراقبين في شخص عبد الباري عطوان الذي لاحظ متحسراً أن السودان لم تعد به جمعيات أدبية ولا أندية ثقافية رغم أن شعبه من أطيب الشعوب! ومن المفارقات ــ التي لم يكن عطوان على علمٍ بها ــ أن الترابيين كانوا في السبعينيات والثمانينيات يتظاهرون بالقراءة والاطلاع ويتبادلون الكتب وينظمون الرحلات المدرسية لاستقطاب الطلاب للدائرة القطبية الشمالية، كما تجدهم جالسين خارج المقاهي حتى إذا ظهر وافدٌ جديد عليهم عرّفه أحدهم بأنه (أخوكم في الله فلان الفلاني) حيث تلفظ هذه العبارة بترخيمٍ مصطنع.
مسكين عبد الباري عطوان الذي لم يدرِ أن إخوانه في السودان وعلى رأسهم صديقه الترابي (وقد سماه صديقه في ذلك المقطع) هم مجرد متهافتين على عَرَض الحياة الدنيا الذي عبُّوا منه عباً ولم يمثل لهم الدين إلا الحائط القصير للوصول إلى مبتغاهم الدنيوي ولم يقصِّروا في حبهم للدنيا فبادلتهم الدنيا حباً بحبٍّ فمنحتهم ما يشتهون وقد أتوها عُفاةً حُفاةً عُراةً ينطبق عليهم تماماً قول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي:
همجٌ رمت بهمُ الصحارى جنة المأوى
تهرُّ كلابُهم فيها
وتجأرُ في المدى قطعانهم
يمشون في سحب الجراد
كأن أوجههم لغربانٍ
وأعينهم لذؤبانٍ
وأرجلهم لثيرانٍ
يدوسون البلاد وينشرون الرعب في كلّ واد
وربما فات على عطوان أن الترابي وحُواره البشير تسللا إلى القصر الجمهوري عبر مؤامرةٍ ليلية ولما زارهم عطوان عام 1990م (راجع مقطع الفيديو باليوتيوب) أخبره الترابي أن هذا الضابط رجلٌ نزيه بحيث أنه كان يردُّ بدل سفرياته ومأمورياته إلى خزينة الدولة. ونفس هذه التزكية صاغها فيما بعد الصحفي القتيل محمد طه محمد أحمد في إحدى صحيفتي الإنقاذ عام 1994م مخاطباً إخوانه الترابيين وهو يزكي البشير هكذا: (نريدكم أن تكونوا مثل الرئيس الذي يضع نثرياته وبدل سفرياته في صندوق دعم الشريعة ونريدكم أن تكونوا مثل الرئيس الذي رفض أن يتوسط حتى لابن أخته أحمد عطا المنان صالح للدخول إلى الكلية الحربية..)، عجبي!!! ولكن إن أنس لن أنسى كذبة بلقاء وردت في خطاب البشير لدى زيارته لقرية السِّدِر بالقرب من مدينة بارا لافتتاح حوض بارا الجوفي وذلك في ضحى الأربعاء الموافق 29/4/1992م حيث قال البشير في ثنايا خطابه المرتجل: (والله يا أخوانا أنحنا حتى راعي البهايم في الخلا مِنِهتمّا بيهو ...)، هكذا نطقها على طريقة أهل الشمال بنهر النيل (مِنِهتمّا بيهو). لك الله يا راعي البهائم، نافر ضربت خلاك يتحفظك مولاك، فلا أنت ولا بقية البشر وجدوا الاهتمام من كذاب العصر الأشر.
وتعكس لنا هذه الوقفة القصيرة على الطلل البالي كيف فعل النظام المخلوع فعلته في خريطة السودان حين بيّت النية على تقطيع أوصال البلاد إلى محافظاتٍ أشبه بلعبة "أم التويسات" التي يلعبها الأطفال حيث كان الغرض من "أم التويسات" الإدارية استيعاب أكبر عدد من العطالى السياسيين الذين سموهم آنذاك (1991ـــ 1998) بالمحافظين ولاحقاً بالمعتمدين ليكونوا أعيناً على الكناتين الجديدة، وبالفعل شاهدنا عدداً كبيراً من الفاقد المهني والتربوي ونباتات السلعلع الإدارية وهم يشقون طريقهم إلى الكراسي التي كان يشغلها سابقاً الضباط التنفيذيون أصحاب الشهادة والدربة والخبرة من الذين كانت تزين أكتافهم الأشرطة الصفراء وهي أشرطة كانت تغيظ الشيخ وحُواره بحيث عقدوا لهم مؤتمراً في 22 يونيو عام 1993م بقاعة الصداقة حضره الرئيس المخلوع ونائبه وقد أعلنوا له مسبقاً بشعارٍ مخاتل ظاهره الرحمة وباطنه العذاب حيث حملت اللافتات في الشوارع العنوان المذهل (الضابط الإداري.. ركيزة التأصيل الحضاري) لكن كان لأهل الدعوة المفخخة داخل القاعة شأنٌ وأي شأن بحيث وصف الشيخ بطريقته السادية الأشرطة الصفراء بأنها ورثة استعمارية يُميز بها الضباط الإداريون أنفسهم على الشعب، لكن فات على الشيخ المدلِّس أن يقول لأصحاب الأشرطة الصفراء المجتمعين قبالته إن الدبابير التي كان صاحباها يجلسان معه في المنصة هي ذات الدبابير التي كان تزين أكتاف خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من عساكر العصر المستهدف بالتأصيل له. ومن التدليس السياسي لمشرِّعي الإدارة المسيَّسين أنهم قالوا بأن القصد من هذا التقسيم الكناتيني هو تقصير الظل الإداري ولكن في الواقع أن التقصير كان للظل السياسي وهو ظلٌّ من يحموم لا باردٍ ولا كريم، فقد أعمل دكتور علي الحاج محمد مبضعه وبقية أدوات عيادته تشريطاً وتقطيعاً لأرض السودان الحبلى الواسعة بحيث تمخضت عن 500 محافظة و26 ولاية هدفها الترضيات القبلية وفرّق تسدْ، وكانت النتيجة لاحقاً نزاعات قبلية وغبن سياسي أفضى إلى الحروب في دارفور وإهلاك الحرث والنسل وسط المواطنين الأبرياء ووسط المتقاتلين أنفسهم بعد أن كان هذا الإقليم التاريخي يجود سخاءً رخاءً على البلاد.
بعد هذه الإطلالة القصيرة على الطلل البالي دعونا نستقبل مولد الحزب الجديد (حزب الاعتصام الثوري) الذي خرج للنور بكامل أبهته يعانق كل فوارس وفارسات السودان باسمهنّ التاريخي المحبب "الكنداكات" حيث ينضم إليه يومياً العشرات من أبناء السودان وبناته من داخل العاصمة وخارجها كقطار الشوق العطبراوي الذي دخل ميدان الاعتصام صبيحة الثلاثاء 23 أبريل لأداء الفريضة الوطنية وإضافة شباب عطبرة الجسور إلى عضوية الحزب. هذا الحزب الاعتصامي الثوري وُلد تلقائياً من رحم المعاناة مشكلاً من كل ألوان الطيف السوداني وخليقٌ بكل مواطن سوداني أن ينتسب إليه فهو الحزب الوحيد الذي عكس وجه السودان الجميل للعالم فقد كانت الأحزاب قبله تتناطح تناطح الثيران للظفر بسرايا الحاكم العام رافعة شعارات مهترئة عفا عليها الزمن لكن حزب الاعتصام الثوري بات يشنف آذاننا بشعاره السرمدي الأثير "حرية.. سلام.. وعدالة والثورة خيار الشعب"، فهذه المطالب الغائية الثلاثة هي حقوق إنسانية لازمة منذ وجود الإنسان على كوكب الأرض أما المطلب الرابع التالي لواو الاستئناف فهو وسيلة لتحقيق المطالب الثلاثة. ومن ثم لا يجوز لقدامى الحزبيين أن يطلبوا من هذا الشباب الثائر السير في ركابهم صماً بكماً وعمياناً ويتحملوا معهم نتائج فشلهم التاريخي المزمن كما تحمله آباؤهم الذين غرر بهم، فالذي يريدهم عليه أن يظاهرهم في ساحة الاعتصام ويقدم طلبه للانضمام لعضوية حزبهم الوليد (حزب الإعتصام الثوري).
|
خدمات المحتوى
|
سيف الدين عبد الحميد
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|