السياسة لماذا لايريد المجلس العسكري تسليم السلطة لحكومة مدنية؟
لماذا لايريد المجلس العسكري تسليم السلطة لحكومة مدنية؟
05-03-2019 02:27 PM
مضى على إسقاط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير الذي سقط يوم 11/أبريل /2019م مايقارب الشهر ومازال الصراع بين المجلس العسكري وقوى الحرية مُحتدما" بسبب عدم توصل الطرفان إلى صيغة سلسة يتم بموجبها نقل السلطة من المجلس العسكري إلى سُلطة مدنية تقوم بإدارة شؤون البلاد خلال فترة إنتقالية والتي من المفترض أن يتم الإتفاق على مُدتها بين كل القوى السياسية يتم بموجبها إنشاء مجلس سيادة وحكومة كفاءات ومجلس تشريعي إنتقالي يضع دستور إنتقالي يتم بموجبه إجراء إنتخابات حُرة ونزيهة بعد إنقضاء الفترة الإنتقالية المُتفق عليها ومن أهم واجبات الفترة الإنتقالية تهيئة البلاد للتحول الديمقراطي القادم بعد إنقضاء الفترة الإنتقالية التي سيتم تحديدها بعد الإتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الذي يجلس على سُدة الحُكم الان في السودان.
لقد ظل الوضع السياسي في السودان منذ فجر الإستقلال يتقلّب بين فترات حكم عسكري ديكتاتوري إستمر لسنوات طويلة تخللها فترتين ديمقراطيتين قصيرتين لم تُتاح خلال تلك الديمقراطيات القصيرة الفرصة لإرساء قواعد الديمقراطية المتينة التي تقطع الطريق أمام العسكر للقيام بإنقلابات عسكرية لم يستفد السودان منها في شيئ غير الدمار الذي لحق بالوطن خلال فترة حُكم عسكري طويلة يعقبها فترة حكم ديمقراطي قصيرة غالبا" ما تقوضه الأحزاب الطفيلية في المحاصصات بينها والتسابق على مقاعد الحُكم دون مراعاة للحرص على إرساء قواعد للحُكم الديمقراطي في السودان..بل كانت الأحزاب وبدلا" من حل خلافاتها فيما بينها هي التي تستدعي الجيش بطريقة أو بأخرى ليقوم بإستلام السُلطة وقد حدث هذا عندما تم طرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان عقب ثورة إكتوبر 1964م قام الحزب الشيوعي بإنقلاب مايو 1969م عندما تحرك الرئيس جعفر نميري وأستلم السُلطة وهو تحالف لم يدُم طويلا" حين قام الحزب بإنقلاب هاشم العطا 1971م فيما سُمي بالثورة التصحيحية وفشل الإنقلاب وتم إعدام هاشم العطا ورفاقه وتم إعدام سكرتير الحزب عبد الخالق محجوب وتم إعدام الشفيع أحمد الشيخ واخرون من قيادات الحزب وكانت تلك ضربة كبيرة لحقت بالحزب مازالت اثارها مستمرة ويعاني منها الحزب حتىالان...وبعد إستمرار نميري في الحكم 16 سنة وضعت ثورة أبريل 1985م المجيدة نهاية لحكمه بعدما تحاف مع حزب الجبهة الإسلامية القومية التي شرعّت له قوانين سبتمبر 1983م تلك القوانين التي كانت مع المجاعة التي إجتاحت كل أقاليم السودان السبب الرئيس في وضع النهاية لحكومة مايو بعد قيام إنتفاضةأبريل 1985م والتي إستلم فيها المشير سوار الذهب السلطة لعام واحد كفترة إنتقالية عقبها إنتخابات العام 1986م وقد أفضت لحكومة ديمقراطية قصيرة إستمرت حتى قام الرئيس عمر البشير بتدبير من حزب الجبهة الإسلامية القومية بإنقلابه المشؤوم في 30 يونيو 1989م ,أستمر حزب الجبهة الإسلامية الذي سمى نفسه لاحقا" "المؤتمر الوطني"في حكم السودان تحت مظلة البشير لفترة قاربت 30 عاما" بعدها تمت الإطاحة به إثر قيام إنتفاضة 19 ديسمبر 2019م التي وضعت نهاية لحُكم الأخوان المسلمين في السودان .
السؤال الذي يفرض نفسه لماذا يتعنت المجلس العسكري القائم الان ويحاول كسب الوقت ولايريد تسليم السُلطة لحكومة مدنية إنتقالية تُدير شؤون السودان لحين قيام إنتخابات حُرة ونزيهة تعقب الفترة الإنتقالية وتضمن إستمرار الديمقراطية في السودان؟
الإجابة تتمثل في عدة محاور فالأزمة السودانية منذ فجر الإستقلال ليست هي أزمة حُكم وأزمة هوية فحسب وإنما هي قبل كل شيئ أزمة رؤية والمأزوم ليس هو الشعب السوداني ولكن المأزوم هم أولئك الحُكام الذين تعاقبوا على حُكم السودان منذ فجر الإستقلال وحتى هذه اللحظة وتتمثل الأزمة في عدم وضعهم لرؤية وإستراتيجية واضحة لكيفية حُكم السودان وإدارة موارده الإقتصادية لصالح الشعب السوداني وبدل عن ذلك حلّ الفساد والمصالح الذاتية الضيقة والصراع بين المكونات السياسية والعسكرية على تلك المصالح الضيقة متناسين تماما" أنهم من المفترض أن يكونوا جميعهم في خدمة الشعب السوداني .
إختلف المحللون في هل ماتم في 11 أبريل 2019م يمثل إنقلاب عسكري أم إنحياز قيادات الجيش لثورة الشعب السوداني التي وصلت مرحلة الإعتصام بالملايين أمام القيادة العامة للجيش منذ يوم 6 أبريل 2019م..وقد جاءت الإجابة من قيادات المجلس العسكري أن ما تم لم يكُن إنقلابا" عسكريا" ولكنه إنحياز لرغبات الشعب السوداني الذي يرغب في الحرية والديمقراطية والعدالة ولكن في المقابل لم يكتمل هذا الإنحياز في الواقع ففي البداية لم يعترف المجلس الإنتقالي بقوى الحرية والتغيير كممثل للشعب السودانيمن المعتصمين أمام القيادة وبدء لقاءات تشاورية مع أحزاب أخرى كحزب المؤتمر الشعبي بزعاة علي الحاج وحزب الإصلاح بقيادة غازي صلاح الدين وبقية أحزاب الحوار الوطني التي كان يتحاور معها نظام المخلوع عمر البشير وهذا ما أغضب قوى الحرية والتغيير التي دعت الشعب لمذيد من الإعتصام حتى رضخ المجلس العسكري وإعترف بقوى الحرية والتغيير كممثل للحراك الجماهيري ودعاها للحوار وقبلت قوى الحرية والتغيير تلك الدعوة وبدء الحوار معها وتم الإتفاق على مبادئ تتمثل في ضرورة إنشاء مجلس سيادة وحكومة كفاءات مدنية إنتقالية..ولكنه حوار لم ينجز حتى الان شيئ يذكر على أرض الواقع ووصل لنقاط إختلاف عدة تتمثل في التمثيل بالنسبة لعدد عضوية مجلس السيادة فيريى المجلس العسكري أنه له الحق في الإحتفاظ بمجلس السيادة وقدم تنازل محدود بأن يتم تشكيل المجلس من 7 عسكريين و3 من المدنيين وهو ما لم يروق لقوى الحرية والتغيير التي ترى العكس بان يكون المجلس مكون من 7 مدننين و3 فقط من العسكريين وهو ما لم يقبل به المجلس العسكري حتى هذه اللحظة.
نقطة خلاف ثانية برزت وهي عدد سنوات الفترة الإنتقالية التي حددها المجلس العسكري منذ البيان الأول بسنتين وترى قوى الحرية والتغيير أن الفترة الإنتقالية يجب أن تكون اربع سنوات وهي فترة ترى أنها كافية لتفكيك الدولة العميقة التي خلفها نظام المخلوع عمر البشير ومن ثم يتم من خلالها النهوض بالإقتصاد وتمهيد الطريق لقيام نظام ديمقراطي قوي يضمن عدم العودة للإنقلابات العسكري كما حدث عقب فترات الديمقراطية السابقة في السودان.
إنّ السبب الأول في عدم تسليم المجلس العسكري للسُلطة كما يرى بعض المحللون هو أن هذا المجلس منذ بدايته كان يتكون في غالبيته من ضباط يعتبرهم المراقبين أنهم جزء من الدولة العميقة التي خلفها نظام المخلوع عمر البشير ويرى بعض المحللون أن مستشاري المجلس جلهم من النظام السابق وبالتالي كان الإعتقاد السائد هو أن ماتم هو إنقلاب على رأس النظام السابق المخلوع عمر البشير مع الإبقاء على النظام السابق وهذا ما كان يعتقده حتى منتسبي النظام السابق والان تفاجؤوا بأن ماتم هو إقتلاع النظام برُمته وليس تغيير رأس النظام كما كان يعتقد الكثيرين وهذا يؤكد إنحياز المجلس العسكري لرغبات جماهير الشعب السوداني ويمكن أن يسلم السلطة لحكومة مدنية إنتقالية وهذا الشيئ لايعجب أنصار النظام السابق من الأحزاب ذات الميول الإسلاموية والأحزاب المنضوية تحت لواء مايسمى بالحوار الوطني أيام حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير.
في الجانب الاخر ربما يرى أعضاء المجلس العسكري أنهم جزء أصيل في هذه الثورة وذلك بعد إعلان إنحيازهم للشارع ورفضهم أوامر الرئيس المخلوع بإطلاق الرصاص على المعتصمين أمام القيادة العامة يوم 6 أبريل 2019م ولذلك ربما يرون أن الإبقاء على حيازتهم مجلس السيادة حق أصيل نظرا" للدور الذي لعبوه وكان حاسما" في مسألة التغيير بعد نضال الشعب السوداني وقد صرح أحد ضباط هذا المجلس قبل يومين في مؤتمر صحفي أنهم لن يسلموا السلطة لجهة معينة مهما كانت هذه الجهة وهذا كلام خطير يدل على أن هذا المجلس لاينوي تسليم السلطة ليس بسبب الخلاف بينه وبين قوى الحرية والتغيير فيما يخص بنود الإتفاق ولكنه يلعب على عامل الزمن ويراهن على تراجع الإعتصامات خاصة بقدوم شهر رمضان وهذا الدور يساندهم فيه أيضا" سدنة النظام البائد من التيارات الإسلاموية بالإضافة لبعض مكونات الحرية والتغيير المتمثل في موقف رئيس حزب الأمة الصادق المهدي الذي تحدث بضرورة الإعتراف بشرعية المجلس ودعا لعد غستفزازه من قبل المحتجين ولعل السيد الصادق المهدي يرى أنه لامانع من تولي عسكرين لمجلس سيادة إنتقالي تأسيا" بما حدث عقب إنتفاضة أبريل 1985م حينما تولى المجلس العسكري الإنتقالي برئاسة عبد الرحمن سوار الذهب دفة الحُكم لمدة عام واحد سلّم بعدها السُلطة لحكومة الصادق المهدي الذي أحرز حزبه أكبر كتلة في برلمان إنتخابات العام 1986م ..ولكن السيد الصادق المهدي ربما فات عليه أن الحدث مختلف والظرف غير ذاك الظرف فسوار الذهب كان يحكم بإسم الجيش السوداني والان لم يعد في السودان جيش واحد بل جيشان لكل منهما قيادته المستقلة فالدعم السريع قوات أنشاها الرئيس المخلوع عمر البشير وهي تأتمر بامر قائدها الفريق أول محمد حمدان حميدتي الذي يشغل الان نائب رئيس المجلس العسكري والذي لعب دور كبير في خلع رأس النظام السابق عمر البشير وهوالذي ظل يظهر في الفترة الأخيرة بصورة كبيرة في المؤتمرات الصحفية عن المجلس العسكري وهي القوات المنتشرة الان في الشوراع لتحفظ الأمن وموجودة أمام المؤسسات الحكومية وفي الجانب الاخر يوجد الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يشغل الان منصب رئيس المجلس العسكري الإنتقالي الذي حل محل الفريق أبنعوف الذي تلى البيان الأول والذي تم رفضه لقيادة المجلس من قبل المعتصمين فتم إستبداله بالبرهان ..والشيئ الأهم هو وجود حركات عديدة مازالت تحمل السلاح في أطراف السودان وإخراجها عن دائرة التفاوض يعود بالسودان لسنوات الحرب والنزاع المسلح وهذا هو الواقع الذي خلقته حكومة المخلوع عمر البشير والذي من الواجب تجنبه إذا أردنا إنتقال سلمي للسلطة وسلام دائم في السودان.
في محور ثالث توجد دول خارجية لايروقها تسليم السلطة لحكومة مدنية في السودان بسبب تضارب مصالحها مع الحكومات المدنية ومنها مصر التي مازالت تحتل حلايب برضاء النظام السابق والتي تخشى إثارة قضية حلايب في المحافل الدولية في حال وصول مدنيين لحكومة إنتقالية في هذا الوقت إضافة لحرصها على الإبقاء على الإتفاقيات المبرمة مع النظام السابق خاصة فيما يخُص بقسمة مياه النيل وحصة مصر التي تفوق حصة السودان منذ العام 1959م وتخشى في حال تولي سلطة مدنية أن تطالب مصر بحق السودان في المياه خاصة وأن مصر لاتلك أي ورقة ضغط على أي حكومة مدنية تتولى السُلطة في السودان من أجل المحافظة على إمتيازاتها وقد كانت تمارس هذه الضغوط على حكومة المخلوع عمر البشير بعد إتهامها للنظام السابق بالضلوع في محاولة إغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في سنوات النظام المخلوع.
بالإضافة لمصر توجد دول الخليج بقيادة السعودية والأمارات والتي دعمت المجلس العسكري منذ أول أيامه وهي تريده أن يستمر في الحكم لحين إجراء إنتخابات بعد الفترة الإنتقالية لتضمن عدم سحب الجيش السوداني الذي يقاتل عنها في اليمن وقد وجدت تأكيد عدم سحب تلك القوات في تصريح نائب رئيس المجلس الإنتقالي حميدتي الذي صرح بعدم سحب القوات لحين أن تكمل مهامها وهو تصريح يناقض مطالب الثوار الذين يرون أن حرب اليمن شأن لايخص السودان ويجب سحب الجيش السوداني من اليمن .
في موقف مغاير ترى الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي ضرورة تسليم السلطة في السودان لحكومة مدنية دون قيد أو شرط وترى تلك القوى المؤثرة ضرورة حدوث ذلك في أقرب وقت ويساند هذه الرؤية الإتحاد الأفريقي ممثل في مجلس السلم والأمن الأفريقي الذي طالب في البداية ضرورة تسليم السلطة لمدنيين خلال 15 يوم ثم عدّل المهلة بعد إجتماع القاهرة لتصبح 60 يوما" كحد أقصى يتم قبلها تسليم السلطة لحكومة مدنية وإلا سوف يتم تطبيق عقوبات على السودان أفريقيا" وقد رأت قوى الحرية والتغيير في مدة ال 60 يوم زمنا" طويل ليتم إنتقال السلطة لحكومة مدنية ويعتقد الكثيرين أن ذيادة المدة ل60 يوم جاء بناء على رغبة الرئيس المصري السيسي الذي يترأس الدورة الحالية للإتحاد الأفريقي وفي خطوة تم الكشف عنها من قبل الصحفي عبد المنعم سليمان أن مسؤول بالإتحاد الأوروبي قال:
((ستقدم لجنة الأمن والسلم الافريقي يوم 21 مايو تقييمها حول مدى إلتزام المجلس العسكري بتسليم السلطة للمدنيين.. وفي حالة جاء التقييم سالبا فلن تكون مهلة الشهرين التي منحها الإتحاد الافريقي للمجلس العسكري ملزمة لأي جهة.. وسيواجه أعضاء المجلس بعدها عقوبات دولية صارمة..))
في موقف اخر مازال المعتصمين يواصلون في إعتصامهم أمام القيادة العامة وأصبح مطلبهم الرئيسي من خلال ضغطهم على المجلس العسكري هو تسليم السلطة لحكومة مدنية تكون قادرة على الإستجابة لمطالب المعتصمين ومطالب الشعب بما فيها محاكمة رموز النظام السابق وتنزيل الحرية والسلام والعدالة لأرض الواقع وبناء المؤسسات الحكومية والإقتصاد في الفترة الإنتقالية حتى يتم بناء الديمقراطية القادمة على أساس قوي ومتين.
خلاصة القول أنه نظرا" للضغوط الخارجية المتمثلة في ضغوط الإتحاد الأفريقي والولايات المتحدة الأمريكية التي تشترط رفع العقوبات عن السودان بتسليم السلطة لمدنيين بالإضافة لموقف الإتحاد الأوربي المساند لموقف الولايات المتحدة إضافة لضغط الشعب السوداني المتمثل في مواصلة الإعتصام أمام القيادة العامة برغم حرارة الصيف وبرغم إقتراب شهر رمضان فليس أمام المجلس العسكري شرعية تسنده ولابد له من تسليم السلطة لحكومة مدنية يتم تكوينها من كفاءات قومية تقوم بإدارة البلاد خلال فترة إنتقالية تمتد لأربع سنوات أو أي مدة يتم الإتفاق عليها بين كل الأطراف وبذلك فقط تكون الثورة السودانية أنجزت مهمها بالكامل وتكون الفرصة مواتية لبناء سودان العزة والكرامة وبناء دولة المواطنة في السودان.
المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.