(وأد الأحلام ) من أيام الشباب (قصة قصيرة)
05-05-2019 04:43 AM
وأد الأحلام
صديقتي التعسة
التحية لك وأنت أبعد ماتكونين عن مجال حديثي هذا الحزين، فقد أقلعت المركب وانقطع حبل المرساة.
منذ أن علمت بهذا الحدث المروع، وأنا حزين حزن من أغتصب منه شئ عزيز ... أنا لست غاضبا بقدر ما أنا حزين عليك ... يعتصر فؤادي الألم الممض ...
رفيقة الطفولة والصبا ... مازلت أذكر رمال الشاطئ ولعبنا، ونحن نجري ويشد كل منا شعر الآخر ويجري ... ويجرى خلفه صاحبه حتى ينتقم ... وأصوات تعلوا وصرخات ألم ولذة ... وحالما نتعب ونرتمي على قوزالرمل أو فوق بعضنا البعض فنحس بلذة غامضة لاندري كنهها ... ولكنا نعيشها ملء مشاعرنا الغضة في براءة غير مصطنعة ... وحينما تنتهي إجازتنا ونقفل راجعين للمدينة، أجدني متثاقل الخطو أحمل ذكرياتي العطرة معك وعنك وعن أحلامنا الطفلة ... فوق الرمال ... فتتناثر مع صافرة القطار وهو يشق الهواء منطلقا نحو مدينتي مبتعدا من أرض الأحلام .
أنا الآن حزين، ياصديقتي، كما لم أكن حزينا من قبل، يثقل كاهلي هذا الهم الكبير الذي تحطمت معه صورتك البريئة فكأنها وريقة ممزقة طارت مع الريح ...
كنت تزدهرين شيئا فشيئا وينمو جسدك النحيل ويستدير قليلا قليلا وتتورد خداك رغم شحوب رياح الشتاء القاسية في بلدتنا ويأتي الشباب مع مرور الأيام والشهور والسنين، فيعطر أيامك وتعطرين أيامي بأحاسيس الخجل تكسو وجهك وأنت تترددين في اللعب كأيام زمان ... وفي كل عام تزدهي ملامحك وتكسوها روح الأنوثة فتنكسر نظراتك ويرتسم عليها الحياء فتكسو عينيك سحرا لاعهد لي به.
لم نكن ندري ماتخبئه لنا الأيام ، أيتها التعسة ...
الآن لا أستطيع أن افعل لك شئيا، فقد غلت يدي وفلت الزمام منا جميعا .. لاشئ غير تعاستك المرسومة على جبينك ... وها أنت تقفين في العراء والناس يرجمونك بالتهمة ... بالعيب ... بالفضيحة ... ويمرون أمامك ويبتسمون في شماتة، وبعضهم يضحك ملء شدقيه، وبعضهم يكتم الضحكات المكبوتة ... ومتى أدرت ظهرك لهم، جردوك من ثيابك، قطعة قطعة ... حتى من آخر قطعة كانت تستر مكان الفضيحة في جسدك ... ويتبعونك حتى يذهب بهم الخيال إلى الحادث ... في تلك الليلة المقمرة، ومن وراء حقول القصب ... والشاب المجهول الذي رفضت أن تبوحي باسمه ... والخوف من تلك المشاعر الجديدة الغريبة ... من أول تجربة وماكنت تدرين أنها تجربة مريرة ... والإغراء والأحاسيس والخدر يسري في أوصالك ويرتخي جسدك... واحتراق الأعصاب خلف سنابل القصب الطويلة وهي تستركما عن أعين الناس، ولذات الألم وآلام اللذة ... ثم ألم حاد يذبحك فيشقي وجودك كله ... ثم لذة عارمة يطير فيها العقل زمنا ثم يعود ... ثم حسرة تمتلئ بها النفس ورغبة في الهروب ... الهروب إلى أين ... وإذا البدر يشيح بوجهه عنكما بعيدا ويعلوه الخجل ، مع تعانق الأنفاس والأجساد واللهيب والارتخاء ... وليغفر الله كل الخطايا وليعف عن جميع المذنبين ... جسدين ممدين على الأرض بين سنابل القصب تختلط أنفاسهما ... ثم يهربان فجأة ويركضان ...
ثم يدور الحديث ... ويحكي الناس تفاصيل الحادث عشرات المرات، ولا أحد يدري من هو شاهد الإثبات؟ عشرات الأفواه تلوّن وتنوع وتنسج التفاصيل ... ويشعل الحديث قلوب العذارى وتشتعل الرغبة في أعينهن... ويداعب الحدث أحلام الشبا ب ويثير خيال النساء والرجال... ولكنهم يستنكرون ... طوال الوقت يستنكرون ... الفضيحة والعار ... وتضع أمك رأسها بين يديها ويعقد ألهم لسانها ... ويحمل أباك عصاه الغليظة ويهدد ويتوعد ... ثم يهدأ بعد أيام ... ورائحة الفضيجة من حوله تسد عليه الطريق ... ونظرات السخرية تطوقه من كل مكان، رغم ابتسامات المجاملة المكشوفة من حوله، والتي تثير حنقه فيكتم غضبه.
لم يكن الشاب المجهول الذي رفضت أن تبوحي باسمه يملك عربة فارهة يداريك بها عن الأعين، ولا حتى غرفة تخفيك عن فضول البشر ... لم يكن يملك غير أحلامه وفورة الشباب ، وأنت لاتملكين غير جسدك المشتاق ... جسد يفيض بالأنوثة والرغبة ... متناسق الأجزاء يكاد ينطق بالشهوة ... ورجلك الشاب يثير خيالك ويمتلك جسدك لبرهة، ثم يهرب بعيدا ويتركك جثة هامدة، تنهشها الألسن ... ويرجمونك أمام الملأ وليس بينهم من يصرخ فيهم قائلا (كما المسيح): "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"، فالمسيح ياحبيبتى مضى ولا أحد يعرف متى يعود ... لقد وقع الثور فكثرت السكاكين فوق رقبته ... ولسوف تذبحك آلاف الألسن .. أما أنا فلا أملك لك ضرا ولا نفعا ... لا أملك لك غير حزن دفين يزيد من غشاوة الماضي ... وأغمض عيني لأتصورك وأحلام الصبا وطهارة البكارة على جبينك ... وأكاد أراك الآن كما بالأمس وأنت تركضين على الرمل حافية القدمين ويحرك الهواء شعرك متموجا وأنت تحاولين اللحاق بي ... وأحلام وردية تدور في رأسينا الصغيرين ... وتمر الأيام ويستدير جسمك و أحلام تشتعل غير الأحلام، في رأسك وخيال مدمر يلهب مشاعرك ... وأنا بعيد عنك أمني النفس بلقياك في العام القادم .
والآن... حينما أراك، وكلي لهفة وشوق، لا أرى وجها أعرفه، ولا لهفة للقائي .. وإنما أرى شخصا يتحاشى نظراتي ...ووجهك النضر يذوي ... وقسماتك تحمل هموم الدنيا ... وخطاياها ... لقد أسقط في يدي ولم أدر مابك وقد لفني الحزن، إلى أن عرفت آخر الأمر ...
فتاتي التعسة
بين جدران القصور ومنازل المدينة الكبيرة المضاءة يدور الكثير في الخفاء ... اللذة ولهيب الشهوة هي لعبة النساء والرجال المفضلة، وقد يكون من بينهم اؤلئك الذين يضحكون من حولك ويشاركون في الغمز واللمز، ويتناولون أخبار فضيحتك باستنكار، ولكن (الفضيحة) لك ولهم الحب والغرام الملتهب ... في الظلام ... والاحترام ... كل الاحترام ... في النهار أمام الناس ... لهم الوجاهة ولك العار ...هم عصريون ياحبيبتي وأنت فاجرة ... البنات منهم يافتاتي، يتزوجن أحسن الشباب من الوجهاء وأكثرهم ثراء، وأنت سوف تباعين لمن يرضى ... لمن يقبل أن يضمك لفراشه البارد الفقير ... دون ثمن ... لأحد السابلة ... ليتخلصوا من فضيحتك ... ولكن الأخريات سيتمتعن بكل شئ ... لاتندهشي ... فقد خلقت للعار لأنك لاتملكين قصرا في مدينة النفاق، تدارين فيه لذات الظلام في الخفاء ... فالأخريات سيتمتعن بكل شئ، لأنهن يملكن كل شئ.
لقد فقدت هدوءك يا فتاتي وإلى الابد ، فأنت في بلد يجعل من عفة الفتاة قشة كبريت لا تومض إلا مرة واحدة ... فقدت أعز ماتملكين ... أحلامك ... وشوقك البرئ لعرس قادم وفارس أحلام تزغرد له النساء ...
وارتجّت الدنيا أمامك وأصبحت سيدة بلا رجل ... سوى ذلك الهارب في جوف الظلام ... ولا أمل في عودته بعد أن نال مانال منك ... أصبحت شاحبة بعد تورد لم يدم طويلا ولم يشعل خيال الشباب إلا هنيهة ثم انطفأ بفعل فاعل ... أصبحت تثيرين الرثاء مرة ... والسخرية مرات ... كوخكم الفقير صار سينما البلد ... لايمر به أحد إلا ويتذكر فضيحتك ... وإن لم يتحدث بها المارة فإنها تخطر بخاطرهم قبل أن يبتعدوا ... صار أبوك يأتيه بليل ويتسلل منه عند تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر... وأمك تسجن نفسها طوال اليوم بين جدرانه.
فتاتي التعسة ...
في غفلة من الزمن تحولت جذوة الأحلام المتوقدة إلى رماد ... تحول الأمل إلى ألم ممض وحسرة وضياع ... هكذا، في لحظة انقلب كل شىء وتبددت صور الخيال الجميل ... وهاهم يسومونك في سوق الإماء الرخيص ، ويبيعونك بثمن بخس إلى عريس ... تربال ... رجل من القرية يرضى بك وقد كنت في الماضي، لاترضين به خادما ... سبحان مغير الأحوال ... ولكنك لاتحتاجين إلى غير الستر ... وقد جلب لك هذا التربال الستر ، فحمدت وشكرت وأنت تأملين النسيان ... والذي سوف يأتي وقد تحولت إلى زوجة وأم عيال، مثلك ومثل بقية نساء القرية ... إلا من ذكرى بعيدة من أيام الشباب الغض، تطفو بين الفينة والفينة فينقبض القلب انقباضا ... ثم تسير الحياة سيرها السرمدي بين أصوات القرية والزوج والأطفال، وتغطي الأحداث أحلام الماضي الموءودة كأنها رمال القوز تجمعت على الوادي الخصيب ...
حينما التقيتك بعد ذلك بسنوات، رفعت عيناك نحوي بصعوبة ونظراتك المنكسرة تعذبني ... تظنيني كالآخرين، وفي نظراتك استنكار عاجز ... وغضب مهزوم ... وأنا لا أجد ما أقول ... ويستمر الصمت ... ولكن هذه المرة ... يطول ويطول ... وأظل عاجزا مثلك ... وتظل ذكرياتنا رمادا تذروه الرياح أو رمالا يحملها الهواء على سطح الصحراء على حواف القرية ... وسوف تأتيك كصدى بعيد، الفينة بعد الفينة ... وقد تنسيك، لبعض الوقت، معاناتك ...
خلف الله عبود الشريف – كلية الفنون الجميلة – 1970
[email protected]
|
خدمات المحتوى
|
خلف الله عبود الشريف
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|