المقالات
السياسة
نكبة وطن وخلاص يتعثّر
نكبة وطن وخلاص يتعثّر
05-09-2019 11:03 AM




تفجّرت النسخة الحالية من الثورة السلمية في منتصف ديسمبر من العام الماضي، لأن الأوضاع الحياتية في السودان قد بلغت أقصى ما يمكن للمرء أن يتصوّره من سوء. ولأن الحال قد بلغ ذلك المدى، فقد أُخِذ النظام الحاكم على حين غرّة، وهو الذي لم يفكّر لحظة في استخدام أي وسائل راشدة للتعامل مع قضايا الشعب والوطن، بينما كل شئ يتدهور بسياساته الخاطئة، والحال كذلك، كان من الطبيعي أن يتشكّل المشهد الماثل، الشعب بكل فئاته يتواصل في المظاهرات إستجابة لتوجيهات تجمّع المهنيين الذي نشر إعلان الحرية والتغيير معلناً ملامح التغيير المنشود، فاستجابت القوى السياسية للإعلان باعتباره الحد الأدنى للتوافق والذي يشكّل البداية للخلاص من النظام السابق، وتوّج الجميع ملاحمهم بالإعتصام في السادس من أبريل، هذه حقيقة يعلمها ويعيشها الجميع أوردناها للتذكير.
دعونا إذاً نتوقّف عند حصاد الثورة بعد السادس من أبريل. فبرغم تنامي حجم الوعي بأهداف الثورة لدى الناس، حيث بات أن الجميع يتجسّدها بالقول والفعل، ويظهر ذلك في الحراك المتزايد والمتنوّع في ساحات الإعتصام في سائر مدن السودان، وفي إصرار الجميع على قطع الطريق أمام أي ردّة إلى حكم شبيه بسابقه، إلا أن حجم الحصاد ما زال مواجهاً بالكثير من العراقيل، حيث تمسّك المجلس العسكري بالسيادة. بعض هذه العراقيل محلّية المنشأ، وأخرى خارجية التوجيه. والحال كذلك، يبرز السؤال البديهي وهو، كيف يمكن تجاوز كل تلك العقبات والوصول بالثورة إلى محطة بداية الفترة الإنتقالية المبرّأة؟ للإجابة على مثل هذا التساؤل، يقتضي الأمر النظر في طبيعة تلك العراقيل وقوّتها، والغايات المرجوة من صانعيها، وما إذا كان في الإمكان إيجاد المعادلة التي يمكن عبرها تفكيكها.
إذا أقرّينا أن الحد الأدنى لالتزام الجميع بإعلان الحرية والتغيير والذي ينادي بالحرّية، يعني في الفعل، التمسّك به نصّاً وروحا، فإن ما يفرض ذلك هو توق الجميع إلى الحرّية، التي لم يشهد التاريخ بأن حكومة تحت سيادة عسكرية قد وفّرتها، ناهيك عن أننا في السودان أصحاب تجارب مع ثلاث حكومات عسكرية. المضامين التي اشتملت عليها الإعلان جاءت مصادمة للنظام الإنقلابي الحاكم، فهو أيضاً سيبقى مصادماً لأي توجّه لتبديل النظام بآخر يشابهه في الشكل والمضمون. ولا بد لكل من يريد أن يقف عند حقيقة التمسّك بمضمون إعلان الحرية والتغيير، أن ينظر إلى أقوال وأفعال قواه المتمثّلة في الكتل الخمسة وروافدها، ما إذا هي لا زالت على عهدها الذي قطعته، وهو عهد لا يقبل التجزئة، لأنه قام على الحد الأدنى، فهو إما أن يصمد كلّه أو ينهار كلّه، وحينها ستبدأ ممايزة الصفوف إلى من هم مع الثورة حتى النهاية، ومن يريدون مغازلة المجلس العسكري والتماهي مع رغبته في التمسّك بالسيادة.
السودان الذي يملك قراره ويتمكّن من سيادته، هو السودان الذي يلتزم بتعهداته الإقليمية والدولية بناءاً على إتّساق تلك التعدات مع مبادئ ثورة الحرية والتغيير، ومصالح الشعب السوداني واستقلال قراره. هذا مفهوم لا يجب أن يختلف فيه إثنان من هنا أو هناك. إن إصرار المجلس العسكري على التمسّك بالسيادة، هو إصرار لوأد إعلان الحرية والتغيير، ووأد إعلان الحرية والتغيير، إجهاض لثورة التغيير، وإجهاض ثورة التغيير خيانة لأرواح الشهداء، وخيانة أرواح الشهداء، مكافأة للنظام السابق ودعوة له للعودة وهو الذي لم يغادر بعد. المجلس العسكري يسعى في تحقيق ذلك إلى إعتماد المراوغة وشراء الوقت. الأمر الغائب عن إدراك المجلس هو أن الشعب الجالس في الإعتصام، يتّفق في ترتيب أولوياته وفي مقدّمتها إصراره على نظام حكم مدني في المرحلة الإنتقالية وما بعدها، وأن ذلك فقط يتأتى بانتقال السلطة إلى مجلس سيادي مدني بتمثيل عسكري محدود.
إن تقاطع المصالح الإقليمية لبعض دول المنطقة، لا يجب أن تتقدّم ولا تطغى على مصلحة الشعب السوداني وقضيّته الأولى المتمثّلة في التحوّل إلى نظام حكم مدني. إن الحكومة المدنية التي دفع الشعب السوداني في سبيلها الدماء، قادرة عندما تأتي إلى التعامل مع العلاقات الثنائية والملفّات والتعهدات القائمة بالشكل الذي يحفظ لكل الأطراف مصالحها على أرضية متكافئة، وهو ما ينبغي أن يكون ديدن كل حكومة وطنية. ولا بد للدول التي تريد أن تحافظ على علاقات وشيجة مع السودان، أن تضع رغبة الشعب السوداني في صدر قائمة أولوياتها، لأن الشعب هو الذي سيرسم في المرحلة المقبلة ملامح ومسارات تلك العلاقات، وما القوى السياسية إلا تنظيمات متنافسة وفقاً لقواعد تبادل عادلة للحصول على التفويض الشعبي لتكوين الحكومات، وما الحكومات إلا ناقل ومنفّذ لتلك الرغبات.
إذن، لا يجب أن يستمر هذا الجمود الذي يهيمن على المشهد السوداني على هذا المنوال. إذا كان للمجلس العسكري أن يسجّل نقطة إيجابية تُحسب له، لا بد أن يُدرك بأن تسجيلها اليوم أسهل من الغد. أي تعويل له على عوامل أخرى غير الشعب، رهان خاسر. هذا الشعب الذي خرج بكل أطيافه معتصماً لهدف واحد يجمعهم، وهو البحث عن الحرّية والسلام والعدالة، قد ذاق كل صنوف العذاب على يد النظام الذي كُنتم في نظره عماده، وهو لن يتراجع بالإغراء أو الترهيب لأنه لن يخسر أكثر من الأرواح، وقد خسر منها الكثير. إذا كانت صورتكم كمجلس عسكري، مهزوزة وضبابية منذ اليوم الأول، فالأولى أن لا تجعلوها معتّمة بالإصرار على ممارسة التعنّت والمكابرة، فهي نفس الممارسات التي أسقطت رأس النظام السابق، وهي نفسها ستسقطكم إذا تماديتم.

عبد الجبار محمود دوسة
رئيس حزب العموم السوداني





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 409

خدمات المحتوى


عبد الجبار محمود دوسة
عبد الجبار محمود دوسة

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة