حطت طائرتي علي أرض الوطن عشية تلك الجمعة الحزينة من شهر يناير والخرطوم نازفة .. واجفة ... راجفة
وكنت قبل وصولي أتابع الأحداث باهتمام شديد متي ما اتيحت لي الوسائط بين الرحلات الجوية
كانت بري تغلي في تلك الليلة
بُرِّي تلك البقعة الطاهرة في شمال شرقي عاصمتنا
أرض مَحَسِنا العبّاد
وشقيقة توتينا
جوهرة نيلنا
وحصن طبقتنا الوسطي الحصين
بها شرطة السودان
وعلي مرمي حجر منها جامعة الخرطوم العتيقة.
بري تقع في قلب مركزنا المتئد الراسي بعيداً عن هامشنا المائج الغاضب
في تلك الليلة قتل طبيب - شهم مبتسم وضّاح الثنايا
حيث أن دراسة الطب في السودان هي استثمار الطبقة الوسطي في المركز الميسور لدولتنا العتيدة
وتضاربت روايات المقتل - أبرصاصة في الصدر؟ أم في الظهر؟
أم بسلاح الجنود؟ أم بسلاح لا تُسلّح به الحكومةجنودها؟
وشُكّلت لجنة تحقيق نأمل أن تحلّ المعضلات
في تلك الليلة البهماء
لاحظت الصدمة والانفعال والوجوم
المختلط بالحيرة
والعزيمة
في وجوه من قابلت من الشباب
ظهر ذلك التوتر جليّاً في وجه سائق سيارة الترحال الذي أوصلني لداري
والليل قد أرخي سدوله
سألته عن الأخبار فقال لي كلهم الآن في الميدان قرب رويال
وفي الطريق كان السائق يهديء سيره ليتبادل الأخبار مع زملائه بلغة أشبه بالبرقيات المشفرة
رحم الله الشهيد الطبيب بابكر عبد الحميد مسعف النازفين ومضمد الجارحات
ولكني رأيت في شهدائنا الخمسين قمرين نيرين
وكل شهدائنا أقمار
وكل الشهداء أخيار
من لدن أسدهم الهصور حمزة
ومنذ عهد سمية بنت الخياط
ولكن هذين الشهيدين الزهراوين فاق ضؤهما ضياء رفقائهم
أما أحدهما فهو معاوية بشير
وهو شيخ ستيني
من بري البراري
يعول عياله
ويحوشهم عن الخروج إلي احتجاجات الشارع
ويعظهم بأنه لا يجوز الخروج علي ولي الأمر كما أفادنا لصيق بالأسرة
ولكنه رغم ذلك ليث شهم هصور يجير من احتمي به
فعندما ولج الثوار باب بيته
واجفة قلوبهم
زائغة أبصارهم
راجفي الفرائص
ومتعبي الأقدام من العدو المتواصل
أجارهم في لبِّ داره وأوصد بابه من خلفهم ليحميهم ممن يجدُّ في طلبهم من العسس الغاضبين
أدخلهم داره
فصاروا في حماه
يذود عن حياضهم فيمن يذود من عرض ومال ونفس.
أغلق الباب معلناً أنه أجار من لجأ إليه - فعل كما فعل المطعم بن عديٍ
الذي أجار نبي آخر الزمان
من بطش أهل مكة - أجاره ولم يؤمن به
كما أجار معاوية بشير الثوّار وهو غير مؤمن بثورتهم.
أصابته رصاصة في فخده
فخر مضرجاً بدمائه
ممسكاً بمقبض الباب ليحمي من استجاره إلي آخر رمق
فياله من هزبر ذي ثبات مات ميتة الأبطال
وكأني به هو الذي رثته بنونة بت المك حين قالت:
ما دايرالك الميتة أم رماداً شح
دايراك يوم لقا بدميك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
فلله درك يا مجير الخائفين
لله درك يا ابن الطيبين
لله درك شهيداً في الخالدين
فقد أحييت بفعلك تراثاً ودين.
اللهم ارحم عبدك معاوية
وأعل مراتبه
واجعل روحه ترفرف في حوصلة طائر أخضر يغشي بُرِّي فيضيء ظلماتها
حتي تبتسم عرصاتها وتتبدي نواجذها.
اللهم بارك في عقب الشهيد معاوية وصبِّر أهله
..اللهم ابعثه وجرحه يثعب دماً برائحة المسك
وهب له بيتاً من قصب
لا صخب فيه ولا نصب
في أوسط دار كرامتك.
اللهم آمين
أما أيقونة شهدائنا الأخري
والذي أحيا أيضاً قيماً سودانية وإسلامية اندثرت أو كادت
فهو طالب الطب بجامعة الرازي
الشاب الرائع محجوب التاج
فقد حدثت أمُّه المكلومة فيه أنه عاد من سلطنة عمان حيث يقيم والده قبل مقتله ببضعة أيام
ولم يك من المشاركين الفاعلين في ذلك الحراك
ولكنه حاول حماية زميلاته من بطش شرطة مكافحة الشغب
التي لا تبقي ولا تذر مثل الريح الصرصر التي تدمّر كل ما تجده أمامها
قوات ضارية ينقصها التدريب علي كيفية التعامل المضبوط مع المدنيين بروح القانون
فلا يكون هدفها فضّ المظاهرات بأي ثمن.
ولكن لنعد لمحبوبنا المحجوب
المأمون علي بنوت فريقو
وأخو البنات
وعشا البايتات
وتسلم البطن الجابتو ..
فقد روت والدته الفضلي
والكلمات تخرج من بين الآهات
عبراتٍ
تفطر القلب وتخنق الفؤاد
لكل من كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد
حكت أمه كيف وضع محجوب ذراعيه الاثنين في شكل أفقي ليحمي زميلاته من بطش قوات فض المظاهرات
- يدا شاب في مقبل العمر -
أمام قوات مدججة بالسلاح والغاز المسيّل للدموع
والخوذات الواقية
وهراوات قاسيات من أنابيب البي بي آر سعة الواحد بوصة!!
فاقتلعه السيل الجارف
وألقي به علي رباعية دفع
وضرب رباعي
والمحجوب به بدانة وله جنان طفل سليم الطوية
تربّي علي أيدي من رضعوا حبَّ السودان
وكانوا سفراءه في حلهم واغترابهم
فصار بهم السوداني تبراً مختوماً تجله شعوب تلك الديار وأضياف تلك الديار
المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.