المقالات
السياسة
أزمة الإسلام السياسي .. وضرورة بناء الدولة العلمانية .. (3-3)
أزمة الإسلام السياسي .. وضرورة بناء الدولة العلمانية .. (3-3)
06-01-2019 04:31 AM

أزمة الإسلام السياسي .. وضرورة بناء الدولة العلمانية .. (3-3)

توطئة :

في المقالين السابقين تحدَّثنا عن جذور الصراع السياسي المُتلفِّح بالدين في السودان، وبداية الدعوة للدستور الإسلامي، والمحاولات المُستمرة لصياغة دستور يرتكز على نصوص مُستنّبطة من الشريعة الإسلامية، كما تحدَّثنا عن أسس ومنابع الدولة الدينية أو (الثيوقراطية) بالتركيز على التاريخ الإسلامي، وتناولنا كذلك نموذج الدولة الإسلامية في عهد الخُلفاء وفي عهد الممالك الإسلامية، وأهم المرتكزات الفكرية للتيارات الإسلامية، بالإضافة إلى عوامل وأسباب قيام الدولة الدينية في العالم الثالث. ثم تناولنا بالنقد فكرة قيام الدولة الدينية بالتركيز على الدولة (الإسلامية) لإرتباطها بالواقع في السودان، بالإضافة إلى فشل الإسلاميين في حكم السودان وفشل دولتهم الدينية (الإفتراضية).

في هذا المقال (الأخير) نختتم بتعريفات مُبسَّطة لمفهوم العلمانية "فصل الدين عن الدولة"، ونستعرض بعض أفكار قادة إسلاميين ونماذج لتطبيق العلمانية، وموقف الحركة الشعبية لتحرير السودان من قضية الدين والدولة، ونقف كذلك على أسباب إصرار النُخب الإسلاموعروبية في السودان على إقحام الدين في السياسة.

تدليس .. وتشويه لمفهوم العلمانية :

ظلَّت القوَى الظلامية وتيارات الإسلام السياسي منذ نشأتها تُمارس التضليل والتدليس فيما يتعلَّق بشرحها لمفهوم العلمانية كجزء من معاركها ضد الحداثة، والقوَى السياسية التقدُّمية، وقوَى الإستنارة للوقوف ضد مشروعات التنوير والتغيير، وضد الإنتقال من السلفية الظلامية إلى عصر التَّحديث والنهوض بالمجتمعات، وكجزء من هذا التشويه والتشويش، ظلَّت تُعرِّف العلمانية بإعتبارها (كُفر وإلحاد)..!، وللصادق المهدي تعريف أكثر تشويهاً للمفهوم، إذ عرَّف العلمانية بأنها (طرد الدين عن الحياة) ..!! وتحدَّث في كتابات عِدة عن "الدولة المدنية" دون أن يُحدِّد ماهية هذه الدولة، وما هي خصائصها.

حول المفهوم :

تقوم العلمانية كأطروحة فكرية وفلسفية، على مبدأ الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، و لها ثلاثة أوجه :

1- وجهاً معرفياً يتمثَّل فى نفى الأسباب الخارجة على الظواهر الطبيعية أو التاريخية وفى تأكيد تحوُل التاريخ دون كلل.

2- ووجهاً مؤسسياً يتمثَّل فى إعتبار المؤسسة الدينية مؤسسة خاصة بينما الدولة مؤسسة عامة.

3- ووجهاً سياسياً يتمثَّل فى فصل سلطة المؤسسة الدينية عن سلطات الدولة ومؤسساتها (التشريعية والتنفيذية والقضائية).

والدولة السودانية الحديثة، هي بالضرورة دولة مُتعدِّدة الثقافات والأعراق والديانات، وفي مسار التطوُّر لبناء هوية مُشتركة تجمع كافة الكيانات السودانية المُتباينة، تحتكِم في بنائِها الهيكلي والقانوني على تساوي جميع الأفراد والجماعات في الحقوق والواجبات : الحق في الحياة، الحق في الإعتقاد، والحق في التعبير. على أن يُضمَّن ذلك في النظام الدستوري للدولة، وتتم حمايته بواسطة القوانين المُتفرِّعة من هذا الدستور والمؤسسات ذات الصلة، وأن ينعكس ذلك بوضوح في اللوائح المُنظِّمة والممارسات اليومية للبني الهيكلية للدولة حتي تصبح تقليداً راسخاً.

الجمع بين الإسلام والعلمانية : النموذج التُركي :

في لقاء تلفزيوني أجرته قناة العربية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن مفهوم العلمانية سأله المذيع : إن الكثير من العرب يجدون صعوبة في الجمع بين الإسلام والعمانية كما تفعلون في تركيا فكيف تجمعون بينهما ؟

وفي الإجابة على السؤال تحدَّث أردوغان :

((نجد صعوبة في فهم سبب تفسير العالم الإسلامي في الربط بين الإسلام والعلمانية، ونحن قُمنا بتأسيس حزبنا وقُمنا بتعريف العلمانية، ولقد عبَّرت عن ذلك عندما قمت بزيارة الى مصر بعد تولِّي مرسي الحكم، وحضرت ولقد تحدَّثت عن الإسلام وعلاقته وصلته بالإرهاب وكيف نوصف الإرهاب. أولاً : الأفراد لا يمكن أن يكونوا علمانيين، ولكن الدولة تكون علمانية - هذه نقطة مُهمة، والعلمانية تعني التسامُح مع المُعتقدات كافة من قبل الدولة، والدولة تقف على المسافة نفسها من كافة الأديان والمُعتقدات، هل هذا مُخالف للإسلام ؟.. ليس مُخالف للإسلام .. ولكن هناك من يحاول أن يؤَوِّل ذلك بتأويل آخر، وفي السنوات الماضية كنا دائما نُعتبر العلمانية مُعاداة للدين .. أو العلمانية هي اللادينية، قُلنا لا .. العلمانية هي فقط أن تضمن الدولة الحرية للمعتقدات كافة، وأيضاً أن تقف على المسافة نفسها حيالها، وهذا هو مفهوم العلمانية عندنا)) ..

وعندما سأله المُذيع : كيف يمكن بإختصار أن تعرِّف للعالم العربي مفهوم العلمانية من وجهة نظركم ؟

فجاءت إجابته على النحو التالي :

((هذا التعريف ينطبق عليهم أيضا ولهم، وأنا أقول لا نعتبِر العلمانية مُعاداةً للدين، أو عدم وجود الدين، وقُلت الفرد لا يمكن أن يكون علمانياً، والعلمانية ليست ديانة، الدولة هي التي يمكن أن تكون علمانية، والعلمانية هي ضمان فقط لحرية كافة الأديان والمعتقدات، يعني العلمانية توفِّر الأرضية المُلائمة لممارسة الأديان كافة، ومُمارسة شعائرها الدينية بكل حرية، حتى المُلحِدون، ولكن إعتبار العلمانية تسليط رأي أو موقفاً إزاء المتدينين، غير صحيح وغير مطلوب إطلاقاً)) - إنتهى.

ومن حديث أردوغان يتَّضِح إنه يمكن تكييف العلمانية -Adaptation في أي بيئة إجتماعية حسب الثقافة السائدة كما فعلت تركيا، فعلى سبيل المثال : العلمانية في فرنسا مُختلفة عن علمانية ماليزيا، وعن تونس، وعن العلمانية في أفريقيا، وبالطبع ستكون العلمانية في السودان مُرتبطة بالواقع الثقافي والإجتماعي، وليست كما يختزلها الإسلاميين المهوسيين في (فتح البارات، وممارسة الدعارة، الفجور، ..... إلخ)، وغيرها من الحُجج التي يثيرونها لتنفير الشعب من مجرد الحديث عن العلمانية.

مهاتير محمد : تجاوز فُقهَاء الظلام .. وبناء "ماليزيا الجديدة" :

في لقاء مُطوَّل نُشِر بعدد من المواقع، شرح رئيس الوزراء الماليزي (مهاتير محمد) مفهوم العلمانية بعبارات مُبسَّطة تكشف الروح الوطنية التي يتمتَّع بها قادة هذا البلد الذي تحوَّل في فترة قياسية إلي قطر صناعي يحتل مرتبة مُتقدمة وسط الدول الصناعية بفضل الموقف الذي إتخذوه تجاه "الدولة الدينية". وهذه بعض النقاط التي وردت في حديثه :

((لابد من توجيه الجهود والطاقات إلى الملفات الحقيقية - وهي الفقر، البطالة، الجوع، والجهل .. لأن الإنشغال بالآيديولوجيا ومُحاولة الهيمنة على المجتمع، وفرض أجندات ووصايا ثقافية وفكرية عليه، يقود إلى مزيد من الإحتقان والتنازُع .. نحن المسلمين صرفنا أوقاتاً وجهوداً كبيرة في مُصارعة طواحين الهواء عبر الدخول في معارك تاريخية مثل الصراع بين السنة والشيعة وغيرها من المعارك القديمة .. نحن في ماليزيا بلد مُتعدِّد الأعراق والثقافات والأديان، وقعنا في حرب أهلية ضربت بعمق أمن وإستقرار المُجتمع .. فخلال هذه الإضطرابات والقلاقل، لم نستطع أن نضع لبِنة فوق أختها .. فالتنمية في المجتمعات لا تتم إلا إذا حلَّ الأمن والسلام .. فكان لزاماً علينا الدخول في حوار مفتوح مع كل المُكوِّنات الوطنية دون إستثناء لأحد، والإتفاق على تقديم تنازلات مُتبادلة من قبل الجميع، لكي نتمكَّن من توطين الإستقرار والتنمية في البلاد، وقد نجحنا في ذلك من خلال تبنِّي خطة 2020 لبناء "ماليزيا الجديدة". وتحرَّكنا قُدماً في تحويل ماليزيا إلى بلد صناعي كبير قادر على المنافسة في السوق العالمية بفضل التعايش والتسامُح)).

وأضاف : ((إن قيادة المجتمعات المُسلِمة والحركة بها إلى الأمام، ينبغي أن لا يخضع لفتاوي الفُقهاء والوعَاظ .. فالمجتمعات المُسلمة عندما رضخت لبعض الفتاوي والتصوُّرات الفقهية التي لا تتناسب مع حركة تقدُّم التاريخ، أُصيبت بالجهل والتخلُّف .. فالعديد من الفُقهاء حرموا الناس من إستخدام التلفزيون، والمذياع، وركوب الدراجات، وشرب القهوة .. بل وجرَّموا تجارُب عباس بن فرناس للطيران ..! وإن كلام العديد من الفُقهاء بإن : قراءة القرآن كافية لتحقيق النهوض والتقدُّم قد أثَّر سلباً على المجتمع .. فقد إنخفضت لدينا نسب العلماء في الفيزياء، الكيمياء، الهندسة، والطب، بل بلغ الأمر في بعض الكتابات الدينية إلى تحريم الإنشغال بهذه العلوم)).

وبالتالي أكَّد مهاتير على : ((إن حركة المجتمع لابد أن تكون جريئة وقوية، وعلى الجميع أن يدرك إنَّ فتاوي وآراء النُخب الدينية ليست ديناً)) .

وأضاف قائلاً : (("إن الله لا يُساعد اللذين لا يساعدون أنفسهم" .. فلا بد أن نُساعد أنفسنا أولاً ونتَّجه نحو المستقبل .. ونحن في ماليزيا قرَّرنا أن نعبُر للمستقبل .. وبمشاركة كل المكوِّنات العرقية، الدينية، والثقافية .. فنحن أبناء اليوم، ونعيش تحت سقف واحد .. ومن حقَّنا جميعاً أن نتمتَّع بخيرات هذا الوطن)) - إنتهى.

ما هي واجبات الدولة :

للتعرُّف على واجبات الدولة، نقتبِس هذا الحديث من مُحاضرة ألقاها الدكتور/ النور حمد : مركز واشنطون الثقافي – 27 إبريل 2019، وهو رجل محسوب على الجمهوريين، والجمهوريين يُعتبرون قوى مُهِمَّة في السودان، ونظَّرَّت في الكثير من المسائل المُتعلِّقة بالدين وبإقحامه في السياسة، الأمر الذي كلَّفهم حياة قائدهم ومؤسس الحزب الجمهوري الأستاذ/ محمود محمد طه في منتصف الثمانينات. ويقول الدكتور/ النور حمد :

((الدولة ليس من واجباتها إدخال الناس إلى الجنة، فإنشاء المساجد أو دور العبادة ليست من واجبات الدولة كما فعلت الإنقاذ إذ تم تشييد المساجد في كل حي وفي كل مصلحة حكومية تقريباً، وهذه ليست وظيفة الدولة – الدين من عمل المجتمع المدني وليس من عمل الدولة، الدولة جهاز تنفيذي لإدارة البلاد .. يعني الحكومة جهاز تنفيذي لإدارة البلاد مثل الشركة .. بتشتغل بخطط وبرامج، وبتتحاسب عليها زي ما بتحاسَب المدير التنفيذي في أي مؤسَّسة .. إذا فشل بشيلوه وبجيبوا غيرو، وأي كلام عن إنك كدولة داير تعلِّم الناس الأخلاق ده إدِّعاء ساي .. الناس بربوا عيالهم في البيوت. والدولة ما بدت بالأخوان المسلمين ولا الإسلام بدأ بالأخوان المسلمين. ده كلو إدِّعاء فارغ، ووضَح إنو فارغ بالتجربة العملية لأنهم هم أفسد من أي زول تاني . ولذلك كل من يعلِّي صوت الدين والإدعاء الديني زي عبد الحي يوسف، فتيقَّن إن هذا الشخص هو أفسد شخص على الإطلاق لأنو بدَّعي بس .. وموضوع الدين وإبعاده عن الدولة دي قضية مصيرية في أي جهود بتهدف لتغيير حقيقي في السودان .. ولذلك أنحنا ماشين ننهي سلطة رجل الدين، فهي التي كبَّلت التاريخ الإنساني في العصر الوسيط في أوربا وأنحنا مش حنخترع حاجة .. حنمشي في المسار الساروا فيهو غيرنا ما حنكون غربيين .. ما يزايدوا علينا لما يقولوا ليك علمانيين ومُفسِدين .. ده كلام فارغ)) ؟ - إنتهى.

وبالإضافة إلى ذلك نستعرض حديث آخر لمؤسس حزب النهضة الإسلامي - التونسي (راشد الغنوشي) حول مُهمَّة الدولة : وهي حلقة بُثت في برنامج "الدين والحياة" بقناة الجزيرة :

((نحن لا نعتبر إن مُهمَّة الدولة أن تفرض الإسلام، أو تفرض أي نمط مُعيَّن على المجتمع، مُهمَّة الدولة أن تحفظ الأمن العام، تُحقِّق العدل، وتُقدِّم الخدمات للناس، أما أن تقول للناس صلي ما تصليش .. إتحجَّبي ما تتحجَّبيش .. تسكر ما تسكَرش .. هذا كله متروك للناس، مُهمَّة الرسالة الإسلامية تحرير الناس من الإستعباد والقهر، وكل الضغوط التي تحرِم الإنسان من حُرِّيته ... لا معني لأي سلوك ديني يأتي من إكراه الدولة. ما قيمة حجاب تفرضه الدولة ؟ .. لا قيمة دينية له .. إنما الأعمال بالنيات، إذا كان هذا التحجُّب لم يصدر بنية التقرُّب إلى الله فلا قيمة له ونفاق، وكذلك الصلاة والذكاة والحج، كل عمل لا ينطلق من حرية الإنسان لا قيمة له عند الله، وبالتالي لا قيمة له في هذه الدنيا..)) - إنتهى.

رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان :

للتعرُّف على رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان حول الدولة الدينية، نستعرض أيضاً بعض ما جاء في لقاء نُشر بتاريخ : 23 سبتمبر 2011 بصحيفة المصير التي تصدر بدولة جنوب السودان مع القائد/ عبد العزيز آدم الحلو - حول موقف الحركة الشعبية من الدولة الدينية، حيث ذكر الحلو :

((إن موقف الحركة الشعبية فيما يتعلَّق بمسألة الدولة الدينية أو علاقة الدين بالدولة، هو موقف مبدئي ولا يقتصر ذلك على الشريعة الإسلامية فقط، بل يشمل كافة القوانين الدينية - إسلامية كانت أم مسيحية، أو هندوسية .. أوغيرها - والحركة الشعبية تُنادي بالعلمانية لضرورة إخراج "السلطة الزمنية" من الدين، وتطبيق منهج علمي في الحكم قابل للقياس والتصحيح والتطوير)).

ثم يضيف الحلو : ((ويُمكن إجمال موقف الحركة الشعبية دون إبتسار في ثلاثة نقاط :

1- لا يحِقُّ للدولة أن تفرض أي دين أو مُمارسة دينية على المواطنين؛

2- تكفُل الدولة حرية الإعتقاد، والتديُّن، والتعبُّد، والتنظيم، والدعوة بطرق سلمية؛

3- من واجب الدولة سن القوانين التي تحمي المواطنين من محاولة أي فرد أو جماعة القيام بفرض عقيدة أو توجُّهات دينية على هؤلاء المواطنين)) .

وفي ردِه على حُجة المؤتمر الوطني بأحقية الأغلبية في السودان الشمالي أن تختار نوع القوانين التي تحكمه، رد بقوله :

((إن مُبرِّر الأغلبية في مواجهة الأقلية، حُجة واهية، ولا تقوم في إطار الدولة الحديثة ومباديء وقيم النظام الليبرالي، حيث أن الفرد هو الأساس، وإن الدولة ما وجِدت إلَّا لخدمة وحماية حقوقه وحرياتهِ وصون كرامتهِ، ورغم ذلك، هناك عدة أسباب إقتضت موقف الحركة الشعبية وضرورة تمسُّكها بفصل الدين عن الدولة وهي :

1- أسباب مُتعلِّقة بطبيعة الدين نفسه؛
2- أسباب مُتعلِّقة بتاريخ المُمارسة الدينية؛
3- أسباب مُرتبطة بطبيعة الدولة الحديثة.

بخصوص الأسباب المُتعلِّقة بطبيعة الدين نفسه، نجد أن أساس الدين، وأهمَّ قيمة فيه هي الإيمان، ومن المعلوم أن الإيمان مكانه الضمير، والضمير مجاله الفرد، وبالتالي لا يُمكِن فرض الدين قسرياً على الفرد، وذلك لأن أهمَّ قاعدة في الدين هي :

"إنما الأعمال بالنيات، ولكل أمريءٍ ما نوى")).

ويواصل الحلو :

((أما بخصوص طبيعة الدولة الحديثة نجد أن أهم ما في الدولة الحديثة والمُجتمع الحديث، هي أنها دولة مؤسَّسات، تقوم على إختلاف الإختصاصات، وأن هذه المؤسَّسات قادرة على البحث والتقصِّي، وإيجاد حلول لمشاكل المواطنين بعيداً عن المقولات الدينية، وتسند هذه المؤسَّسات معاهد بحوث ومؤسَّسات تعليمية، وفي الدولة الحديثة تستطيع هذه المؤسَّسات عبر البحث العلمي من تقديم مُعالجات لكافة القضايا التي تواجه المُجتمع بما في ذلك قضايا الأخلاق. وفي المجتمع الحديث يتم التفريق بين "المجال العام" و"المجال الخاص"، وبالتالي فإن القوانين التي تصدُر عن الدولة تكون مُختصَّة بالـ"مجال العام"، مع إعطاء الفرصة للـ"مجالات الخاصة" لتقوم بسن قوانينها كلياً في : (المسجد/ الكنيسة / الشركة / النادي/ ... الخ)).

وفي سؤال عن دوافع القوى السياسية التي تقف وراء مُحاولات فرض الشريعة الإسلامية ردَّ قائلاً :

((هي دوافع عرقية وسياسية وليست دينية، وهي مُحاولات لتمرير أجِندة ثقافية لا علاقة لها بقيم الدين الإسلامي، وفي تقديري - إن الدوافع الحقيقية تهدف إلى خلق إمتيازات تُمهِّد للسيطرة على السلطة)).

ويضيف القائد/ عبد العزيز الحلو :

((إن الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية هدفت أيضاً إلى تحجيم عملية تحرير المرأة السودانية التي بدأت في إرتياد دور التعليم، والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية، لذلك سعت القوَى الرجعية إلى إعادة المرأة إلى المنزل تحت ذرائع النصوص الدينية)) – إنتهى.

الدولة الدينية : أداء للتمركُّز والسيطرة :

خُلاصة القول - وكما سبق وتحدَّثنا في المقالين السابقين .. فإن النُخب السودانية المُسيطرة، عملت منذ بواكير الإستقلال على إقحام الدين في السياسة، وسن دساتير وقوانين ذات مرجعية إسلامية .. والهدف من ذلك في الأساس، هو خلق "رؤوس أموال رمزية"، وإمتيازات للكيانات الإجتماعية المُسيّطرة في السودان للإنفراد بالحكم، والسيطرة المُطلقة على السلطة والثروة في البلاد. فهذه التشريعات تحول دون وصول غير المسلم إلى سُدة الحكم، وكذلك أهل الهامش حتَّى لو كانوا مُسلمين، لأنهم دون معايير وشروط العروبة، وبالتالي "ناقصي دين".

وفكرة "مركَزة - Centralizations" السُلطة والثروة هذه، تعود جذورها إلى التاريخ العربي الإسلامي، وإلى عهد "عثمان بن عفان" عندما وجَّه جامعي القرآن ليكتبوه بلسان "قريش" - كما ورد في صحيح البُخَاري – كتاب فضائل القرآن – باب نزل القرآن بلسان قريش - 4699 :

((حدَّثنا أبو اليمان، حدَّثنا شُعيب عن الزهري، وأخبرني أنس بن مالك، قال : فأمر عثمان - زيد بن ثابت، وسعد بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن ينسخوه في المصاحف، وقال لهم "إذا إختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فأكتبوه بلسان قريش .. فإن القرآن أُنزل بلسانهم .. ففعلوا")).

وهذه كانت بداية "مَرْكَزة" السلطة والسيادة المُطلقة لـ"قريش"، وتشكُّل المركزية الإثنية والثقافية والسياسية في شبه الجزيرة العربية، لأن القرآن كان : (عربياً .. بلسان عربي مُبين). وهذا ما يُفسِّر إصرار النُخب السودانية على "العروبة والإسلام" لدرجة إلصاق السودان بجامعة الدول العربية، والسعي الدؤوب لسن قوانين مرجعيتها الشريعة الإسلامية، والإصرار على إلحاق نسبهم إلى شبه الجزيرة العربية (بالتركيز على العبَّاس)، وذلك لإضفاء الشرعية على سيطرتهم ونفوذهم المُطلق، وبالتالي إقصاء الآخرين وتهميشهم.

المراجع :
1/ د. محمد عمارة : الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية- دار الشروق للنشر – الطبعة الأولى؛
2/ إبراهيم غرايبة- أولية العقل : نقد أطروحات الإسلام السياسي؛
3/ نصر حامد أبو زيد – نقد الخطاب الديني – مكتبة مدبولى – 2003م؛
4/ د. عمر القراى – نقد الإسلام السياسي – ورقة 2008م ؛
5/ المرصد العربي للتطرُّف والإرهاب : سيكولوجية التطرُّف : ما هو التطرُّف؟ ما هي أشكاله؟ ما هي أسبابه ؟ وكيف نعالجه؟. 2002؛
6/ حنة آرنت : التوليتاريا – أطروحة دكتوراة عام 1928 – صدرت باللغة العربية عام 1992 : ترجمة، إبراهيم العريس؛
7/ صحيح البُخَاري (الجامع المسند الصحيح المُختصر من أمور رسول الله، وسننه، وأيامه) – محمد بن إسماعيل البخاري (256 – 194 هـ)؛
8/ مقابلات صحفية؛
9/ الشبكة العنكبوتية – ويكيبديا.

عادل شالوكا





تعليقات 2 | إهداء 0 | زيارات 399

خدمات المحتوى


التعليقات
#1832948 [Haidar AlTahir]
0.00/5 (0 صوت)

06-02-2019 05:35 PM
أرى ان الكاتب يقحم العروبة في بعض الامور من دون مبررات عقلانية فمثلا قوله : (هذه التشريعات تحول دون وصول غير المسلم إلى سُدة الحكم، وكذلك أهل الهامش حتَّى لو كانوا مُسلمين، لأنهم دون معايير وشروط العروبة، وبالتالي "ناقصي دين".) مع أن الواقع المعروف هو أن ءاخر خلافة اسلامية لم تكن عربية بل كانت تركية العرق و اللغة !!, و بالتالي مشكلة التشبث بالعروبة هي مشكلة سودانية بحتة لا سند لها في


#1832744 [Ahamed Abdalla]
0.00/5 (0 صوت)

06-01-2019 04:44 PM
المقالات الثلاثة تعتبر مشروع كتاب

اتمني جمع كل حلقاتك في كتاب مستقبلا


عادل شالوكا
عادل شالوكا

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة