المقالات
السياسة
قراءة أولية في ملف الثورة
قراءة أولية في ملف الثورة
06-15-2019 11:26 PM

قراءة أولية في ملف الثورة

كلنا بشر وخطاؤون وخيرنا من يدرك خطأه ويقومه
ليس في النشاط السياسي عمل متحقق عن يوتوبيا المدينة الفاضلة ، فذاك من أشغال الفلاسفة ، أما السياسة طبقا لواقعها أقرب للميكافيلية إن لم تكن بذاتها ، لكونها تاتي متسقة مع طبيعة الاجتماع البشري القائم على تدافع المصالح ، السياسة لا شأن لها بالأخلاق والمبادئ الإنسانية ، فتلك مهمة العقائد والتشريعات أما السياسة فهي رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية ، أي رعاية شؤون مواطنها ومصالحه داخليا وخارجيا ، وتعرف إجرائيا حسب (هارولد لاسويل ) بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا.
هذا المدخل قصدت به العبور نحو قراءة موضوعية لثورة ديسمير 2018م وهي لا زالت متقدة ، لفتت إنتباه شعوب العالم وحكوماته ، بعد أن مهرها الشابات و الشباب السوداني بدمائهم الزكية ، غير أن هذه الحقيقة لا تقف معزولة عن حقيقة أخرى لا تقل أهمية ، وهي الاعتراف بأن هذه الثورة لم يكن مخطط لها بصورة جمعية منظمة ، واستراتيجية متوافق عليها ابتداءا بين القوى القائدة للحراك ، صحيح أنها جاءت نتاج تراكمات ، غير أن لحظتها الصفرية لم تات كنتيجة لتخطيط جمعي موقوت ، ولعل ميقاتها أوجدته ظروف وإحداثيات كان الدور الاقليمي فيها الأكثر بروزا ، عندما تعمدت قطع إعانتها المادية لنظام ظل يعاني من تدهور اقتصادي وعجز مالي متتالي لسنوات ، تفاقم أثره بعد المقاطعة التي فصمت عروة مجلس الخليج العربي ، وقسمت مكوناته الي محوريين متخاصمين ، عندها بلغت الأزمة الاقتصادية في السودان ذروتها ، وتلاقحت مع ما كان من نشاط داخلي معارض للنظام ، فخرجت الجماهير مطالبة بتحسين الوضع المعيشي ، فلتقطت القوى المعارضة القفاز ، وحولت المطالب الي تغيير النظام ، ولما كان النظام الحاكم في أضعف حالاته الاقتصادية ، صفر اليدين من أي حل يدرك به الأزمة بعد تنكر حلفائه الاقليميين ، لم يكن أمامه وقد بلغت الاحتجاجات الشعبية ذروتها ، متجاوزة وصامدة تجاه كافة صنوف التعذيب والقتل والارهاب ، لم يكن بين يدها سوى الحل الأمني ، فساقهم تفكيرهم نحو خطة يمكن بها تجميع الجماهير الغاضبة في مكان محدد ، يسهل تصفيتهم فيه بضربة قاضية ـ بعد أن أرهقت الجماهير أجهزتهم القمعية بسياسة الكر والفكر من عدة اتجاهات ، ومن داخل الأحياء والأزقة العديدة المتفرقة على طول وعرض المدن الثلاثة ، ومدن السودان الأخرى ، ومع اصرار الجماهير وتكرار محاولاتهم بلوغ مراكز عقل النظام في البرلمان والقصر ، رأت السلطة الأمنية أن تقتنص الفرصة ، و تفتح لهم ثغرة يتجمعون فيها ، فكان شارع القيادة العامة هو المكان الأسلم وفقا لتقديراتهم الأمنية.
انتبهت القوى الإقليمة ذات المصلحة لما آل إليه حال النظام الحاكم ، ونجحت في قراءة المد الشعبي المتصاعد ضده ، فرأت التعجيل بوضع يدها على مسار الأحداث حتى لا تفقد مصالحها ، فحركت من ارتبطت مصالحها بهم في الجيش ، لكي يضغطوا نحو عزل البشير وطاقم حكمه ، غير أن رجالها في الجيش ليسوا على قيادة الجيش ولا الدولة ، لذا اكتفت بدفعهم للضغط على قياداتهم لاستلام السلطة ، على أن يتصدوا هم لعملية القبض على رأس النظام والقيادات النافذة في الدولة ، مستفيدين من لحظة إصدار البشير لأمر فض الاعتصام بالقوة ، وفقا للخطة الأمنية التي وضعت سلفا بمساعدة من مخابرات السيسي ، لقد كان التخطيط الخليجي لوراثة النظام ذكيا ومحكما ومتدرجا حيث نجح في عزل البشير وتنصيب نائبه دون اللجوء لفض الاعتصام ، ذلك لكي يبقى الاعتصام سندا متقد الجذوة الي حين يلوغ رجالهم سدة السلطة ، فكان لهم ذلك ، حيث تواصل الضغط ضد الفريق ابن عوف الي أن تقدم باستقالته هو ونائبه ورئيس جهاز الأمن ، فتصدر رجليهم البرهان وحميتي سدة السلطة في البلاد ، ومن ثم شرعوا في مساوماتهم مع قوى الحرية والتغيير المعبرة عن إرادة الجماهير الثائرة ، إلى هنا كانت الأمور على بطئها تمضى وفق ما خطط لها من قبل المحور الاقليمي ، غير أن ما لم يضعه المحورالاقليمي في حساباته أو يعره انتباهته ، شبهة ضلوع قيادتيهم اللذان دفعا الي قمة هرم المجلس العسكري ، في ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية ، وما سوف يثيره ذلك في نفوس الجماهير الثائرة من شك وريبة يضعفان ثقتهم فيهم ، كانت تلك هي العلة التي شكلت عائقا وحجر عثرة ، تجاه وصول كل من المجلس العسكري وقوى الحرية في اكمال إجراءت تأسيس النظام الانتقالي ، فتعرض ما كان مأمول من توافق الي شد وجذب ومراوغات ، فتحت شهية فلول النظام المعزول لتعاود نشاطها في العلن بعد أن تخفت لبعض الوقت ، وكان لظهورها أثر بالغ التعقيد في مسيرة الثورة ، حيث زادت من وتيرة الحماس في جسد الجاهير ، ودفعتهم الي التعبير عن رفض المجلس العسكري والدعوة لاسقاطه ، ولغرابة المقادير توافقت رغبة الجماهير في تلك اللحظة مع رغبة من ثاروا ضدهم من فلول النظام المعزول ، حيث وجدوا الطريق سالكا أمامهم ليتسوروا الثورة ويتسللوا الي ساحة الاعتصام ، داعمين هتافات الجماهير لاسقاط المجلس العسكري من ناحية ، وتوسيع المتاريس واشاعة مظاهر الفوضى والمخالفات الا أخلاقية من ناحية أخرى ، كانت غايتهم بطبيعة الحال مختلفة عن غايات الثوار ، فهم يدعمون فكرة ضرب وتسميم العلاقة بين المجلس العسكري والثوار من جانب ، والضغط على المجلس العسكري من جانب آخر لكي يعمل على فض الاعتصام بحجة شيوع مظاهر لا أخلاقية هددت أرواح الناس في محيط الاعتصام ، للاسف لم تكن خطتهم متوقفه عند هذا الحد ، بل كانت معدة لخدمة اهدافهم الي أبعد مدى ـ اذا استجاب المجلس العسكري لصغوطهم الداعية لمحارية المظاهر السالية حول محيط الاعتصام ، وعندما استجاب المجلس العسكري وشرع في تفيذ تطهير شارع كولمبيا هرعوا بدورهم نحو انفاذ مخططهم كامل الجهوزية من قبل عزل البشير ، فكان ما كان من مذبحة تصدى لها شبابنا وشاباتنا بصدور مفتوحة ، وجسارة خطوها بدمائهم مع من سبقوهم على صفحات تاريخ السودان المعاصر.
أمران لم يعد سرا معرفة عامة الناس بهما ، الأول أن مايعرف بالدعم السريع لم يعد تنظيما عسكريا إثنيا خالص التبعية لقائده محمد حمدان دقلو كما عرف سابقا ، إذ تم تطعيمه من فترة سابقة بكتائب من الأمن والدفاع الشعبي والجيش ، الأمر الثاني أن هذه القوة العسكرية جلبت الي الخرطوم بأمر الرئيس المعزول لكي يوكل إليها مهمة حسم الثورة بالقوة عقب تجميع جماهيرها أمام القيادة العامة ، ولكن دخول المحور السعودي المصري الإماراتي كان فاعلا في تغيير مجرى الأحداث ، بدا ذلك جليا في رفض قيادة الدعم السريع الاسجابة لأوامر النظام بفض الاعتصام ، ومن ثم انحيازها الي جانب عزل البشير ، فكان ما كان من تغيير متدرج انتهي بجلوس البرهان وحميتي على مقود المجلس العسكري كما اسلفت ، مضى حال كما تقدم دون اللجؤ الي فض الاعتصام ، بحسبانه يشكل ظهيرا يعرقل نجاح أي محاولة انقلابية تسعى إليها مليشيات النظام السابق وفلوله ، كانت حسابات الفلول ترمي الي السيطرة على مشاعر الشباب المعتصم ، وتوجيهها لخدمة هدفهم نحو التصعيد مع المجلس العسكري وأرهابه لكي يتمسك أكثر بالسلطة حماية لأنفسهم من الحساب ، وفي نفس الوقت العمل على هز قناعة المجلس العسكري في جدوى الاستمرار في الاحتفاظ باعتصام لم يعد في صالحهم ، يقدر ما اصبح غلا آسرا يعرقل من فرص فرض إرادتهم على قوى الحرية والتغيير، ولكن في المقابل تصيح المعادلة في غير صالحهم اذا عملوا على فض الاعتصام بالقوة ، فكانت ثغرة شارع كولمبيا ، ولعل المجلس العسكري وصل لتفاهمات مع قوى الحرية في هذا الشأن ، يفهم ذلك من اعلان قيادات قوى الحرية اخلاء طرفهم مما يحدث يشارع كولمبيا ، وأن هذا الشارع لا يمثل امتدادا أو جزء ا من ساحة الاعتصام ، كان هذا الموقف بمثابة ضوء أخضر للمجلس العسكري ، ليقدم على تنظيف ذلك الشارع وحسم المتفلتين فيه ، بعد أن بلغت بهم جرأتهم التعدي على نظاميين في الدعم السريع بالقتل والسطو على مركباتهم.
عند تقدير تلك اللحظة لا أجد ما أوصف به تصرف المجلس العسكري سوى بالغفلة المميتة التي أعمته عن ادراك ما تخفيه فلول النظام السابق من خطط تنتظر بها اللحظة المواتية لتبدأ التنفيذ ، لقد قرات تقريرا أصدره نادي وكلاء النيابات جاء فيه أنهم كلفوا بمعية قوة عسكرية بمهمة تطهير ما يعرف بشارع كولمبيا ، وأن التعليمات كانت صارمة للقوة المختارة للقيام بالمهمة دون اراقة الدمام او استخدام الرصاص الحي الا بإذن وكيل النيابة المرافق للحملة ، ولكن عندما بدأت العملية ظهرت قوة كبيرة مسلحة وشرعت في اطلاق النار بكثافه في اتجاه المعتصمين أمام القيادة العامة ، ناشرين الموت والاصابات الجسيمه في صفوف المعتصمين ، هذا التقرير يستشف منه أن جهة ما سواء كانت من عضوية المجلس العسكري أو فلول النظام السابق عملت على استغلال الموقف ، ونفذت إرادتها المبيتة في فض الاعتصام بالقوة ، وتخلصت بذلك من عقبة كانت تحول دون انقلابهم على المجلس العسكري ، وحتى إن لم تكن لديهم خطة للانقلاب فانهم نجحوا في حرق المجلس العسكري أمام الراي العام الداخلي والخارجي ، مما يصعب معه استمرارهم في ظل سلطة انتقالية ، ولم يعد امامهم بعد اعترافهم الصريح سوى الاستقالة والخضوع لتحقيق محايد يبين مستوى مسؤوليتهم ، وليس من حقهم أخذ القانون يايديهم وتقدير مستوى مسؤوليتهم جائية كانت أم أخلاقية بأنفسهم.
على ضوء هذه الوقائع علي الثوار وقوى الحرية أن يدركوا حجمهم ، ويقروا بالاخطاء الاستراتيجية التي وقعوا فيها عندما لم يتوافقوا منذ البدء على استراتيجية واضحة وحاسمة لخط الثورة ، اذ لا يعقل أن تدفع الجماهير الي الاحتماء بالجيش ومطالبته الانحياز الي جانبها ، وعندما تستجيب مجموعة منهم وتستولى على السلطة دون سابق لقاء او تواصل مع قيادة الحراك الثوري ، يمنحوا على الفور صك الانحياز لجانب ثورة الجماهير ، وكان الأوفق على قوى الحرية منذ لحظة اعتلاء مجلس البرهان الي السلطة الاستيثاق منهم ، وما إن كانوا مع المبادئ التي طرحتها الثورة أم لا ؟ ذلك بمطالبتهم التوقيع على وثيقة إعلان الحرية واعتمادها حتى يتم الاعتراف بهم كجسم من اجسام قوى الحرية ، فإن ابدوا رفضهم يستمر الحراك ضدهم الي حين اسقاطهم ، وفي تقديراتي كان المجلس وقتها محكوم بظروف لا تضع أمامه خيرات أخرى سوى التوقيع لضمان استمرار الحراك الشعبي ألي جانبه.
كل ما جاء اعلاه أضحى اليوم في حكم الماضي ، ولم يعد المجلس العسكري بعد التاسع والعشرين من رمضان هو المجلس السابق لهذا التاريخ ، كما أن دائرة الحراك الثوري عادت الي نقطة البداية ، ولعلها سانحة لكي تقيم الاجسام المتصدرة للعمل الثوري أداءها ، وتراجع خططها ، وتتواثق على استراتيجية واحدة تلتزم بها حتى تبلغ مرادها في التعيير المطلوب ، وحدة الهدف وتحديد استراتيجية المواجهة وتماسك الكتل واعادة تنظيم نفسها ، و احتواء المجموعات الشبابية التي بدأت في تشكيل اجسام لها ، مثل ذنون وسراج واولاد الضي وغيرهم من النشطاء على مواقع التواصل ، ودعوتهم للتوقيع على ميثاق الحرية والتغيير واختيار من يمثلونهم في مجوعة قوى الحرية ، ضرورة تفرضها المرحلة لمواصلة النضال ، ومن الضروري أيضا أن يكون لقوى الحرية لجنة اسناد قانونية من خبراء يسترشدون بهم.
إن جذوة الثورة والرغبة في تغيير لا زالت متقدة في نفوس الشعب السوداني ، فقط تحتاج لأن يكون لجسمها القائد فعالية أكبر وتمثيل أوسع يواصلون التفافهم حوله الي أن تنجز الثورة أهدافها المعلنة في شعارها حرية سلام وعدالة مدنية خيار الشعب.

محمد علي طه الملك
[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 262

خدمات المحتوى


محمد علي طه الملك
محمد علي طه الملك

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2024 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة