تمثل حياة المواطن ذلك الواقع المعيش بكل آلامه وحرمانه وتحققاته الغير مكتملة وأحلامه المجهضة، والوطن من ناحية أخرى هو تلك الفكرة الجميلة الدافئة هو ذلك الحلم (اليوتوبيا) التي تقبع عميقاً في اللازمان، هناك بعيداً جداً، إما في المستقبل الذي لم يتحقق بعد، أو في الماضي البعيد الذي يُعاد انتاجه كل حين بحسب ضرورات الواقع، وفي كلا الحالين تعمل فكرة (اليوتوبيا) كمخزون استراتجي لكل ما هو جميل وطاهر نمتح من معينه مقومات الهوية وموجهات الحياة التي تعيننا على البقاء.
يتمتع الانسان البدائي بذاكرة انتقائية عفوية جداً، تم تصميمها من قبل أحسن الخالقين لتجلب له السعادة وتُبعد عنه ما ينغِّض عليه حياته البدائية قبل أن يتدرج بعقله في سلم الحضارة الانسانية، وبالتالي نجد أن الشعوب المتخلفة تفكر بتلقائية وتحلم بالعودة إلى الماضي، بل ويصل ببعضها عبادة الأسلاف، لا لشيء سوى أن الماضي تمت تنقيته وغربلته من كل شائنة وشائبة حتى أصبح (Crystal Clear) لذلك الذاكرة الجمعية للمجتمعات المتخلفة تبحث عن مستقبلها في ماضيها (حياة السلف) ذلك الفردوس المفقود.
بينما الانسان صاحب الحضارة يستخدم عيناه الأماميتان تماماً وفق موقعهما الوظيفي في مقدمة الرأس، وبالتالي يكون موقع أحلامه وأشواقه (اليوتوبيا) هناك في المستقبل، وكل ما هو في المستقبل يخضع للفعل الانساني من ناحية التحسين والتطوير، وبالتالي فالتفكير التقليدي يمثل له مشكلة حضارية، لأنه في حاحة لأن يفكر بطريقة ابداعية على غير سابق مثال يتجاوز بها واقعه نحو حياة أفضل.
جاء الاسلام بوصفه دين حضاري ليؤكد سنن التاريخ التي تموضع (يوتوبيا) المسلم في مستقبله وليس ماضيه، وقام بتحريم وهدم يوتوبيا الأسلاف (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)، وذهب أبعد من ذلك بحيث أوجب مخالفة الكبراء وهم السلاطين ورجال الدين وكل من يقدس الماضي أو يتمتع بمنصب سيادي على الناس (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)، ولكننا نبذنا كتاب الله وراء ظهورنا وأبدلناه بدين (السلفية) امعاناً في مخالفة القرءان فكانت النتيجة أن تذيلنا الأمم.
وفق هذا المنظور نفهم لماذا كان أسامة بن زيد قائداً على أبو بكر الصديق وعلى عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فالنبي الكريم صلوات ربي عليه وسلامه كان يعلم حقيقة أن الشباب هم أساس الثورات بعنفوانهم وهم من يقدم حياته ثمناً لتغيير الواقع لأنهم هم أصحاب ذلك المستقبل القادم وهم بالذات من يحس بالحاجة لتحقيقه وليس (سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا)، فالوطن والدين معاً يتطلبان المسير والتقدم بل والهرولة نحو المستقبل والابداع والابتداع وكل بدعة تصبح عبادة وأسمى أنواع العبادات التفكر وبالتالي يصبح الابداع الفكرى أرقى العبادات، وليس النكوص والهروب نحو الماضي، فالماضي هو وطن الاسلاف فلماذا نزاحمهم أوطانهم.
هذه ملاحظة مهمة على فكر السلفية الجسمية منهم والاشعرية، فهم يقتفون آثار السلف أبداً مرتدين للوراء، ويا ريت لو ما يتعقبونه من المرويات صحيح قطعاً، إن هم إلا يظنون ولا يغني الظن من الحق شيئاً.
المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.