خطبة الجمعة
06-28-2019 10:34 AM
ساخر سبيل - الفاتح جبرا
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين.
عباد الله :
يقولون في عاميتنا أن فلاناً (لحس كلامو) وذلك كناية على أنه تراجع عن قول أو وعد قام بقطعه على نفسه ولم يوف به، ولأن للمجتمعات دور مهم في تشذيب أفرادها وزرع بذرة الأخلاق في داخلهم فقد جاء في كثير من الموروثات ما يحض الأفراد على الإيفاء بالعهد ويذم النكوص والنكوث عن الوعد وفي هذا جاءت القولة الشعبية (الراجل بمسكوهو من لسانو) .
إن الوفاء بالعهد يا أحبتي قيمة أخلاقية سامية ترسي دعائم الثقة بين الأفراد، فبدونه تفقد الثقة وتحلّ الخيانة مكان الأمانة، وتتعسر حينئذٍ على الناس معيشتهم أيما عسر وهو خلق نبوي حميد وسلوك إسلامي نبيل، أمر الله به في كتابه فقال: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)، وقد جعل الله صاحبها مسؤولاً عنها يوم القيامة: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً).
ولذلك كان الأنبياء في مقدمة أولئك الذين أوفوا بعهودهم فهذا الخليل إبراهيم جاء وصفه في القرآن الكريم نديًا رطبًا بهذه الصفة الجليلة؛ قال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، نعم، وفَّى حين ابتلاه الله بكلمات من الأمر الإلهي فأتمهنَّ، وفَّى حين قدَّم ولده إسماعيل قربانًا تنفيذًا لأمر الله تعالى، وفَّى حينما ألقي في النار فصبر ابتغاء مرضاة الله وثباتًا على دين الله تعالى.
وكذلك كان الوفاء بالوعد صفة إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- حينما عطَّر الله ذكره فقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً)، وانظر هداك الله إلى تقديم هذه الصفة الكريمة على الأخبار بأنَّه رسول نبيُّ.
عباد الله:
وما هو الوفاء بالعهد يا أحباب؟ إنه القيام بما يلتزم به المرء، سواء كان قولاً أم كتابًا، ولا يبرأ إلا بالوفاء به فإذا خالف ما وعد به عن قصد فإنه يقع في دائرة النفاق؛ ففي مسند أحمد عن محمد السيوطي عن أنس مرفوعًا: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، وفي الصحيحين: "ثلاث من كنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم، إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
عباد الله:
والعهد نوعان، عهد الله مع الناس: قال ابن عباس: "كل ما أحلَّ الله وما حرَّم وما فرض في القرآن فهو عهد"، فالإيمان الفطري عهد أخذه الله علينا ونحن في عالم الغيب، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا).
فالإحسان بالقول والفعل عهد، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عهد؛ قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ)، والعدل مع النفس والأهل والزوجة والناس عهد؛ قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى)، كما أن نشر العلم وبيانه عهد؛ قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)، قال قتادة: "هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن تعلَّم علمًا فليعلمه الناس، وإياكم وكتمان العلم؛ فإن كتمان العلم هلكة".
وبيع النفس والمال بالجنة في الجهاد في سبيل الله عهد؛ قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ).
وجملة القول إن العهد بين الله وبين خلقه على عبادته وطاعته، وهي أمانة حملها الإنسان: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا).
وأما العهود التي بين الناس بعضهم بعضًا فهي كثيرة يختارها الناس، فهي مواثيق وعهود ووعود والتزامات بحاجة إلى الوفاء، وإلا اختلت موازين التعامل والمعاشرة بين الناس، وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قيمة الوفاء، وضمن الجنَّة لمن أداه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: " اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنَّة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم". رواه أحمد والحاكم وصححه الذهبي .
أيها المسلمون :
أعلموا أن من عاهد وواعد وعزم على الوفاء وصدق في عهده كان الله كفيلاً له ومعينًا، فاصدقوا مع الله واصدقوا مع الخلق وأوفوا ما عاهدتم به، وأدوا أمانتكم، وأصلحوا ما بينكم يبارك لكم فيما آتاكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وأقم الصلاة.
الجريدة
|
خدمات المحتوى
|
الفاتح جبرا
مساحة اعلانية
الاكثر مشاهدةً/ش
الاكثر تفاعلاً
|