المقالات
السياسة
دولة الإسلاميين العميقة وتبعات التغيير في السودان
دولة الإسلاميين العميقة وتبعات التغيير في السودان
07-04-2019 10:44 AM

تراجيديا الغدر والخيانة

مهما إمتلكنا من جامح من خيال لايمكننا تصور فظاعة المشهد الذي حدث علي إمتداد الشوارع والأرصفة الممتدة أمام مباني قيادات القوات المسلحة السودانية، في الصباح الباكر من وقفة عيد فطر شهر الصيام الحرام. قتل وحرق وإغراق وإغتصاب لنساء ورجال وأطفال، مسالمين، عزل، إعتصموا علي باب من إعتقدو أنها قوات شعبهم المسلحة التي أقسمت العهد علي حماية عرضهم وشرفهم وكرامتهم. مشهد تَجلَّي عن بشاعة وجبن وغدر وخيانة تنْعَقد لها فصاحة اللسان المبين وتصيب بالشلل مراكز الشعور الحي و التفكير السليم.

بعد ثلاثين عاما من سلطة الإسلام السياسي المقيت وفعل الثورة الرافض، المثابر والعنيد، أنهارت آخر حكومات المشير عمر حسن أحمد البشير والمتحالفين معه من الإنتهازيين والمنافقين والأرزقية وعلماء الجهل والسلطان. في محاولة يائسة لوقف المد الثوري الجارف تنازل عمر البشير مرغما عن السلطة لوزير دفاعه، الفريق عوض أبنعوف وقائد أركان حربه كمال عبد المعروف. تم الإحلال والإبدال بعقلية العسكر التي تعتبر إدارة الدولة خدعة ماكرة في معركة حربية يكون العدو فيها هو المواطن الخائن، شاذ الأفق والأخلاق، الذي يحاول الإستيلاء علي سلطة لا يتدبر من أمرها شيئاً. لم تنطلي الخدعة علي فطنة الشعب، الذي مازال صدي كذبة "تذهب أنت للقصر رئيساً وأذهب وأنا للسجن حبيساً" يتردد في ذاكرتة جمعه الذكية اللَّماحة، فقام زملائهم في اللجنة الأمنية بإبدالهم بمجلس آخر، مماثل، مماطل ومخاتل، برئاسة عبد الفتاح البرهان ونيابة محمد حمدان دلقو، قائد "قوات الدعم السريع".

بدأ مجلس البرهان وحمدان من حيث إنتهي إليه نظيره السابق فشرع في التحايل علي مطالب الشارع للبقاء في السلطة. حاول المجلس العسكري إيجاد حاضنة سياسية من الصف الثالث من فلول النظام السابق وسدنتهم لتكون بديلاً لقوي الحرية والتغيير، ممثل الشعب الذي فجر الثورة وفرض أجندة التغيير التي من ضمنها حكومة مدنية، بتمثيل محدود للقوات النظامية، تنحصر مهامها في الأمن وتأمين مكتسبات ثورة الجماهير. من البديهي والمعلوم، في نظام الدولة المدنية التي تقوم علي الديمقراطية وحق المواطنة الحر، أن يكون دور قوات الشعب المسلحة المحافظة علي الدستور وصيانة حرمة البلاد وحدودها. لكن، وكعادة من لم ينسي أو يتعلم شيئاً، لم تعير الطغمة العسكرية أية إهتمام لرغبة الجماهير وتشبثت، كمن سبقوها، بمقعد السلطة الوثير. هرع الطامعين إلي تلبية دعوة المجلس العسكري لإضفاء الشرعية عليه ولكن، لأن التهافت والجشع يغلب علي طبع اللئيم الذي لا يعرف فضيلة الإيثار، إنفضَّ سامر جمعهم في خصام وعراك، مخزي ومشين. لم يجد المجلس العسكري خياراً آخر يطيل به حبال المماطلة والخديعة غير الإعتراف الخجول بقوي الحرية والتغيير والدخول معها في حوار أعار لهُ أُذُناً لاتسمع وبيت له كل خبيث من نوايا.

في غفلة من الزمان وجدت الطغمة العسكرية نفسها علي أعتاب باب قصر الشعب فدلفت إليه في غطرسة وعجل وأخذت تمارس سلطة لاتملكها وتسافر لما وراء الحدود والبحار للبحث عن قبول وشرعية لم تجدها في أرض موطنها ولترهن إرادة البلاد لمن يدفع ثمن الإرتزاق في حروب الوكالة التي ليس للسودان فيها ناقة ولاجمل.

في هذا الأثناء، تحولت ساحة الإعتصام إلي حلم من نهار الدولة المدنية، المستنيرة، المتنوعة والرحيمة. وجد الشعب السوداني نفسه، بكل سَحَنات عرقه وأطياف دينه وتفاوت أعماره وإختلاف جندره، يفترش نفس الرصيف من الطريق ويلتحف نفس الرُقعَة ًالزرقاء من سماء السماحة والقبول ويقتسم ربع رغيف الخبز ويسد حجوته من خزينة تمتليء بسخاء "كان عندك خُتْ وكان ما عندك شِيل". تكافل وتراحم وتلاحم عبر عن أقصى ما في الإنسان من إحساس بالأخر الإنسان. أنقص ذلك الحضور البهي - الطاغي، علي مجلس البرهان وزمرته العسكرية، حلاوة الإنفراد بالحكم والتمتع بمزاياه. فكيف لا والإعتصام يمثل حجر عثرة تقف بين مجلس البرهان والسلطة والمجد العصي. لذلك حاول العسكر، مراراً وتكرراً فض سامِرهِ ومحو آثار حاضرهِ. لكن، شجاعة وصمود المعتصمين أفشلت كل محاولاتهم الماكرة والخبيثة فقرر، في النهاية، اللجوء لما يعرفه من خطط وحيل لخوض غمار المعارك والحروب. ففي نظر العسكر العاطلين عن خوض معارك الشرف والكرامة الحقيقة، ليس من الصعب تحقيق الإنتصار الكاسح علي من لايمتلك من الحيل غير التمسك بأدوات سلمية لاتؤذي ولا تقتل أحداً. أجتمعت اللجنة الأمنية المكونة من قيادة الجيش والشرطة وجهاز الأمن وقوات الدعم السريع ورئيس القضاء والنائب العام من أجل التخطط للمعركة الحاسمة التي سوف تنتصر لذواتهم وتحقق رغبتهم العارمة في التسلط والإنفراد بالحكم. إكتمل التفكير والتدبير واُحْكِمت الخطة ولم يبقي إلا التطبيق والتنفيذ والإستعداد للإحتفال بالنصر المبين.

في صباح اليوم الثالث من شهر حزيران في عام 2019؛ ومن قبل أن ترتقي أشعة الشمس الساخنة أعتاب الأفق الناعس والكسول، تسلل رتل مدجج بالأسلحة الأتوماتيكية من أفراد الشرطة ومليشيات الجنجويد وكتائب الظل والمتآمرين والمجرمين والأوباش، لساحة الإعتصام المليئة بجموع الجماهير العُزَّل - الصيام - النيام في أواخر هجعة صباح عيد الفطر والفرح والحبور. هكذا؛ فجاة، ومن غير مقدمات، حدث الهجوم المباغت وأنطلق وابل كثيف من الرصاص والدخان. قفز النيام من هجعة فجرهم الحالمة، الندية، في هرج ومرج عظيم. أرتفع في الهواء تكبير وتهليل ودخان كثيف ثم آهات من الألم وصراخ وعويل. حدث ما لم يكن في الحسبان وخرجت كتائب الظل والظلام، بعد بيات قصير، لتقتات علي الدماء المليئة بعنفوان الصبوة والحياة.

سادت الفوضي المكان وإختلط حابل الأشياء بنابلها. نيرانٌ تلتهب وتلتهم الخيام وما بداخلها من النساء والشباب والشيوخ والأطفال. لم تنجوا حتي اللوحات الجدارية التي رسمتها ريشة الثوار الميامين للتعبير عن يتوبيا مشروع دولة الشعب، المدنية، المبدعة والخلاقة التي صارت قاب قوسين أو أدني من غاية المنال والتحقيق. أجساد يانعة، يافعة، نضيرة، مسجية، مبعثرة في الطرقات وعلي الرصيف، بلا روح أو حراك أو نظام. بعضها تفحم من فعل ألسنة اللهب التي إسْتَعرت في نخاع عظمهم وسميك عصبهم الحي. البعض الأخر كان له موعداٌ ثاني مع نائبة القدر فوجد نفسه يتنفس تحت ماء النيل العكر وكاحله المتعب مُكبَّلاً بثقل الحجارة والحديد. البعض الأخر ما زال في عداد المفقودين الذين تبحث عنهم أمهاتهم في معتقلات السجون ومكبات النفايات وبين ثنايا جروف النهر العتيد. مصيبة ما بعدها مصيبة؛ وكارثة تذهب بثابت الخِلدُ والوجدان وتشيب لها رؤوس أصغر الولدان. في لحظة خاطفة من ذلك الصباح البائس تبدل كل شيء: صار الحُلم كابوساً في عز النهار وعيد الفرح ألما وحزنا دفيقاً من قبل أن يأتي. مفارقة في العنف والوحشية كان ضحيتها أبريا تمترسوا خلف أعتي متاريس الرفض والمقاومة السلمية للتعبير عن رغبتهم العارمة في الحرية والكرامة والعيش الكريم.

"حدث ما حدث": هكذا عبرت الطغمة العسكرية عن موقفها من المذبحة التي تسببوا فيها بتخطيطهم القاصر - الماكر وتفكيرهم الفطير والبليد. "حدث ما حدث": جملة فضفاضة، مخادعة وجبانة تشير إلي حالة ما بين النكران وعدم المسؤولية والإستهتار بأرواح بريئة أٌزْهِقت من غير ذنب أو جريرة. بإختصار، تَنكَّر وتنصل المجلس العسكري، ليس فقط من الجريمة التي إعترف بها الناطق - الضليل بإسمه، الفريق الركن، شمس الدين كباشي، بالتدبير والتخطيط لها، ولكن، أيضاً، من تبعات المسؤلية االجنائية والأخلاقية التي إختار أن يتحملها بمحض إرادته ورفض في تعنت وعنجهية تسليمها لمن هم أحق بها وأهل قادرين علي تحملها. فالجناة الذين إرتكبوا الفعل الشنيع ، كما يريد العسكر أن يتصورهم الأخرين، كائنات قاسية، منزوعة الرحمة وبلا وازع من ضمير، تنزلت علي المعتصمين النيام من أطراف فَوَهات كون قاتم السواد. أما الضحايا، شهداء الحرية والكرامة، الأمجاد - الميامين، فهم من شاكلة مرتادي منطقة كلومبيا الفاسقة و المارقة عن نظام الدولة والقانون التي يتربعون علي عرشها الخاوي.

هكذا، في نهاية أسوأ مشاهد مسرح اللامعقول، تَكَشَّف المستور وظهرت حقيقة جنرالات الجيش الذين تزين صدورهم نياشين البطولات الزائفة ومجد الحروب العبثية التي يشنونها علي أبناء شعبهم بإسم الوطن ومنع الفوضي وتحقيق النظام. الأن، بانت حقيقة أسطورة قوات "الشعب" المسلحة "القومية" التي تنحياز لشعبها في كل منعرجات تاريخه الحرجة التي يتسبب فيها بعض من أفرادها الطامحين، المغامرين الذين خنثو بقسم شرف الجندية وحماية الدستور وسطو بليل بهيم علي سلطة الشعب الشرعية. الأن، بعد المجزرة التي تعرض لها الشعب علي مسمع ومرأى من جنرالات القوات المسلحة، وبعد أن إنبلج الصباح وسكِت السامرين عن الكلام المباح، تبين أن كل ما قيل و حُكِي عن قوات مسلحة تنتمي للشعب؛ تأتمر بأمره وتتأدب في حضورهِ، ليس أكثر من وهمٍ مجرد ومحض كثيف من هراء.

منذ أن إستقل السودان من الإستعمار البريطاني، لم يُعْرف للقوات المسلحة آية موقف واضح وحاسم في صالح دولة الشعب المدنية، الديمقراطية. فَمَنْ غير القوات المسلحة أجهض فترات الحكم الديمقراطي بالإنقلابات العسكرية وأفرغ فترات الحكم الإنتقالي من مضمون التغيير والتجديد فيها بالمماطلة في تسليم السلطة للشعب والإصطفاف إلي جانب القديم، الفساد والمستبد. يتذكر الشعب أنه علي طول إمتداد تاريخ الدولة الوطنية لم تتصدى القوات المسلحة لأية من المعتدين علي حرمة حدود البلاد في الوقت الذي لم تتردد فيه في خوض غمار الحروب الضروس ضد أبناء جلدتها وفي جهات السودان الأربعة. أنفضل الجنوب بسبب حروب الجهاد والعنصرية وقتل وشرد مئات الألوف بسبب سياسات الأرض المحروقة في دارفور ولاتزال منطقتي الفشقة وحلايب في أيدي الغزاة المعتدين.

واحد وخمسون سنة من من عمر الإستقلال قضاها شعب السودان تحت نير حكم العسكر وحلفائهم من متطرفي الأيدلوجيا وعبدة الجاه والسلطان. من عبود للنميري؛ لسوار الدهب؛ للبشير؛ مروراً بأبنعوف ثم البرهان ونائبه، قائد قوات التتار الجديدة، محمد حمدان دقلو. أسقط العسكر أول حكومة وطنية، ديمقراطية بعد سنتين فقط من إنتخابها والتي في عهدها هُجِّرَ أهلنا الحلفاويين من أرض أجدادهم وغمرت مياه بحيرة ناصر صروح حضارتهم العريقة. إستولي النميري علي السلطة في عام 1969 متحالفا مع أقصي اليسار وإنتهي قُبيل سقوطه في أبريل 1985 متحالفا مع أقصى اليمين الذي وجد فرصته التاريخية في تطبيق عقيدة التمكين وقانون شريعة الإهانة والجلد والبتر . لم تسطع حكومة العسكر الإنتقالية، بقيادة المشير سوار الدهب، التي جاءت بعد إنتفاضة إبريل، من محو آثار نظام نميري لسبب تماثلها في الطبع والأخلاق مع النظام الهلك – القديم. فقد صدق الراحل - الحاضر، دكتورجون قرنق، عندما وصفهم ب- ‘مايو2’ لتثبت الأيام حكمة وصواب ما ذهب إليه.

شارك الأخوان المسلمين ‘ب-51’ عضوا في برلمان النظام الديمقراطي الهش الذي جاء بعد إنتفاضة أبريل 1984 فقام عسكرهم المندس في القوات المسلحة بالإستيلاء علي السلطة فشرعت مباشرة في التخلص من العناصر الوطنية في القوات المسلحة وإستبدلت عقيدتها في حماية الوطن ودستور نظام حكمه بأيدلوجيا الجهاد ودولة الحزب الواحد - الحاكم - الأحد. بعد كل هذا، تبقي حقيقة أن القوات المسلحة، التي يقف جنرالاتها المُنَعمين في صف قاهرِ الشعب وجلادهِ، ليس أكثر من مؤسسة ربيبة لنظام دولة الإستعلاء العرقي والثقافي والفصل الجهوي والقبلي والتمييز الديني والجندري. وهنا، لا مناص من التذكير بالتناقض المنطقي بين مفهومي دولة العسكرالمتسلطة - الصفوية ودولة الشعب المدنية- الديمقراطية. فالسلطة المطلقة فوضي وفساد مطلق يكون من نفس جنس عمل القهر والكبت الذي تمارسة الدولة، عين منبت الفوضي والفساد واللا نظام - فلا حساب أو رادع من عقاب؛ ولنا في مجزرة القيادة عبرة تغص بها الحلاقم وجرح عميق لا يندمل.

نتابع في "الدولة العميقة وتبعات التغيير في السودان - الدولة المدنية وسلطة العسكر والمليشيات"

د. عثمان عابدين عثمان
[email protected]





تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 345

خدمات المحتوى


د عثمان عابدين عثمان
د عثمان عابدين عثمان

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة