لا يوجد خلاف أن كل السودانيين داخل وخارج السودان من مختلف المشارب والفئات والجهات والأحزاب والحركات المسلحة شاركوا في توحد فريد في إنجاح ثورة ديسمبر المجيدة واسقاط النظام البائد. توج هذا التلاحم الثوري الشعبي باتفاق تاريخي بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في فجر يوم الجمعة 5 يوليو 2019، ومن المنتظر التوقيع النهائي خلال يومين بحضور إقليمي ودولي، وبذا تكون الثورة السودانية قد أنجزت أحد أهم أهدافها وهو السلطة المدنية، وبدأت مسيرة شائكة مليئة بالتحديات والمخاطر نحو سودان السلام والحرية والعدالة. وكعادة السودانيين عبر التاريخ أنهم يتوحدون في الملمات والتحديات الوطنية الكبرى ويختلفون ويتباينون عندما تستتب الأمور. هذه العقلية والحالة الذهنية السودانية يجب مخاطبتها برؤية واضحة وملهمة نحو السودان الحلم ليجدف الكل في اتجاه واحد يقود المركب الوطني إلى تحقيق هذه الرؤية؛ وإلا فإن التجديف سيكون في اتجاهات متعاكسة وسنظل مكانك سر.
رغم الاتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير الذي وجد ترحيباً ودعماً محلياً ودولياً؛ إلا أن التحديات والعقبات كبيرة والطريق شاق وطويل وشائك، ما دعا واشنطن بوست وقناة الجزيرة إلى ترجيح انتصار الثورة المضادة. يرى بعض المراقبين أن الدولة العميقة هي أكبر المهددات لأحلام السودانيين، وستعمل بكل قوتها لإفشال السلطة المدنية القادمة وإجهاض أحلامها في انتشال السودانيين من دائرة الفقر والأزمات وغلاء السلع وغياب الخدمات. بينما الجبهة الثورية وحركة تحرير السودان جمدت نشاطها في قوى الحرية والتغيير متهمةً حلفائها في المعارضة السياسية بتهميش الحركات المسلحة. في وقت خرج علينا ما يسمى (تنسيقية القوى الوطنية )التي تضم 179 حزباً وحركة مسلحة وتحالفاً شبابياً في 7 كتل سياسية كبيرة شارك معظمها في عملية الحوار الوطني مع نظام الرئيس المعزول عمر البشير، بالدعوة إلى "إسقاط" الاتفاق السياسي الموقع أخيراً بين المجلس العسكري وقوى "الحرية والتغيير"، واصفة إياه بـ"الاتفاق الإقصائي". هذه الكيانات ينطبق عليها المثل السوداني (دبيب الاغيلف، المية ما يورموا الكراع). ودبيب الإغيلف نوع من الثعابين غير السامة، وإذا لدغت مائة منها شخصاً في رجله فإنها تستطيع أن تؤذيه أو حتى تسبب له ورماً في رجله. مثل هؤلاء لا يهمونا، سندعهم ينبحون وقافلتنا تسير. إلا أننا نأمل في توحد كل السودانيين لتحقيق السودان الحلم. حلمنا لا يتحقق بالأماني وإنما بالوحدة والتعاضد والتكاتف والتعاون والعمل الجماعي بروح الفريق. تذكرت أيام في جبال تهامة عسير، حين كنت أرى اليمنيين وهم يحملون الصخور الضخمة للبناء ويرجزون (أربعة شلو الجمل، الجمل ما شلهم). يعني أربعة أشخاص يستطيعون حمل الجمل ولكن الجمل يعجز عن حملهم.
ما أريد قوله هو أن السلطة القادمة يجب أن تعمل على توحيد الشعب السوداني خلف أهدافه السامية. عليهم عمل فرمتة كاملة للذهنية السودانية للقضاء على فيروسات كانت تمثل سياسات وأساليب واستراتيجيات وشعارات الحكومة الساقطة. ذهنية التمكين والولاء الأعمى، وعدم إنكار المنكر، والكذب والخداع والنفاق، وسوء الأخلاق، التي لم نجن منها إلا الفشل والفقر والفساد والحصار السياسي والاقتصادي والعزلة الدولية. خلال فترة الحكم السابق اختفت الطبقة الوسطى نتيجة الفساد وتدني الأجور وارتفاع أسعار السلع وضعف العائد من النشاط الزراعي والصناعي، وبقيت طبقة عليا من الصفوة ومعظمهم من اللصوص والفاسدين والمجرمين، وطبقة دنيا هم أكثر من 90% من الشعب السوداني تناضل وتجاهد من أجل لقمة العيش. على كل من يخاطب الشعب السوداني أن يعرف أنه يخاطب فقراء همهم (معاش الناس). الأساليب القديمة في مخاطبة الشارع لم تعد مجدية. الشعب لا يقتنع بالوعود والأحلام الزائفة ولا يريد الكلام الدعائي المنمق المعسول الذي طالما سمعه من الرئيس المخلوع: (الما عندو موية نوفر ليهو الموية، والما عندو كهرباء نوفر ليهو كهرباء، وحا نخطط الطرق، ونفتح المدارس والمستشفيات، وحا نعمل ليكم من النيل طحينة، ووووو ...). ليت من يطلق مثل هذه الوعود يخبرنا كيف سيفعل كل ذلك.
السلطة القادمة يجب أن تخاطب معاش الناس عملاً لا قولاً، هذا هو الهم الأكبر للشعب السوداني. يقول عالم النفس الشهير إبراهام ماسلو في نظريته المسماة (هرم ماسلو للاحتياجات الانسانية) أن احتياجات الانسان مرتبة في شكل هرمي إلى خمسة مستويات. المستوى الأول وهو الاحتياجات الفسيولوجية والتي نطلق عليها إجمالاً (معاش الناس) وهي تأتي قبل احتياجات الأمن والأمان، والسلم الاجتماعي، والحريات، والسلطة والجاه. أي حكومة لا تحل مشكلة معاش الناس ستذهب إلى مذبلة التاريخ، سواءً أكانت مدنية أو عسكرية. قال تعالى في سورة قريش: (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) فقدم معاش الناس على الأمن والأمان من الخوف. كلما تكلم الرئيس المخلوع أو أحد مسؤوليه الساقطين عن معاش الناس، كنت أرجح حدوث طامة جديدة تهدد معاش الناس، وأقول في نفسي (لطفك اللهم).
على السلطة القادمة التخطيط الاستراتيجي العلمي السليم للمرحلة الانتقالية، لا نريد أن تدار الأمور بفوضوية، ولا نريدها أن تشتغل بأمور انصرافيه. نريدها أن تبدأ بوضع رؤية عامة وواضحة وملهمة لكل الشعب (ماذا نريد أن نكون؟). نريد أن نكون البلد الذي يوفر لمواطنيه العيشة الكريمة. ثم تنتقل لأليات واستراتيجيات مدروسة ومكتوبة من شأنها تحقيق هذه الرؤية. لا تقولوا لنا سنوفر لكم مستشفى، ولكن قولوا لنا كيف ومتى. وهذه ينقلنا إلى مرحلة تنفيذ هذه الآليات والاستراتيجيات على أرض الواقع. يتخلل ذلك الرقابة المستمرة لتقييم مدى فعالية هذه الاستراتيجيات في تحقيق الرؤية الاستراتيجية للدولة، وهو يتطلب شفافية عالية. وأخيراً سيقودنا التقييم والمراجعة إلى التحسين المستمر. إن أكثر ما دمر اقتصاد السودان خلال حكم الانقاذ المظلم هو الأفكار والرؤى غير المدروسة التي يخرج بها الكوز ويسوق لها المنتفعون في غياب المراجعة والرقابة والمحاسبة.
في بريطانيا يوجد مركز للتجارة الحكومية (The Office of Government Commerce) ويوجد له مراكز أو هيئات مماثلة في كثير من دول أوروبا الغربية. مهمة المركز فحص البرامج والمشاريع في نقاط القرار الرئيسية في دورة حياتها، لضمان قدرة هذه المشاريع والبرامج على المضي قدماً بنجاح نحو المرحلة التالية. يستخدم المركز خبراء مستقلين، والهدف هو ضمان الاستخدام الأمثل لأموال دافعي الضرائب فيما يعود عليهم بالمصلحة والمنفعة والخدمات. هذه العملية المستقلة هي أفضل الممارسات في الحكومة المدنية المركزية والقطاع الصحي والحكومات المحلية والدفاع. ما الذي يمنعنا من تكوين هيئة مماثلة تقوم بنفس المهام حتى لا ينكبنا الجهلاء من أهل السلطة بكوارث مثل تدمير مشروع الجزيرة وخطوط السكة حديد والطيران والنقل البحري والنهري وصناعات ومؤسسات أخرى، وكان آخرها قطع الانترنت. النظام الساقط تميز بالجرأة في اتخاذ القرارات المصيرية وانعدام الرؤية وغياب المحاسبة، فاتخذ أسوأ القرارات في تاريخ السودان.
د. محمد العركي [email protected]
المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.