المقالات
السياسة
وإذ قتلتمونى وانتم سامدون
وإذ قتلتمونى وانتم سامدون
07-08-2019 08:41 PM

وإذ قتلتمونى وانتم سامدون*
قصة قصيرة.. ..
1
عيناى تنفتحان ببطء على شيء لم تألفانه من قبل!! ما هذه الجدران الشديدة الصلابة، واين انا؟ ثم ما هذا المكان الموحش المظلم الضيق، والذى فجأة، ولفرط حيرتى طفق يضيء ويتسع شيئاً فشيئاً؟.. لبرهة وقبل ان تتكشف الامور امام ناظرى ظننتنى حبيس فى احدى الزنازين.. شيء ما يثقل جسدى الممدود ويشده بقوة الى الارض، وثمة قماشة سميكة تلف وجهى فتحول بينى وبين رؤية ما حولى، فكل ما هنالك سكون مطبق.. سكون مرعب.
اين انا؟ ولماذا ارقد على احدى جنبتىّ ملفوف فى قماش، ومقيد الحركة؟ هل اصبت بالشلل على حين غرة؟ ما الذى جرى لعقلى حتى بات يكف عن التفكير إلا بهذه الصورة المشوشة؟ اتساءل فى حيرة محاولا استعادة ذكريات الساعات الماضية، فأنا فى وضع غير طبيعى بالمرة، ولأول مرة اجدنى غير قادر على الوقوف على قدمى.. أنا الآن اشبه بدمية طُمرت فى باطن الارض واهيل عليها التراب.. عقلى وحده يعمل، وبنصف طاقته فقط.. ما عداه متعطل تماما.. شيء ما يشبه دبيب النمل يتخلل خلاياى ويسرى فى جسدى بدءً من قمة ناصيتى مرورا ببقية الاعضاء حتى عم النصف الاعلى من جسدى بأكمله.. فى هذه اللحظة بالذات بدأت اعى ما انا فيه..
أترانى تحت الثرى؟! هكذا تساءلت فى ريب..
حاولت تحريك رجلىَّ، الا ان محاولتى باءت بالفشل!!
كررت محاولاتى مرارا دون جدوى..
حدث ذلك بدافع غريزى محض؛ إنها غريزة التشبث بالحياة..
وتم فى بضع ثوانٍ بحساب الوقت فى الحياة الدنيا..
معقول؟!
لا اكاد اصدق!!
اذاً فانا داخل القبر!! الآن تيقنت من ذلك تماما..
حين توصلت الى هذه الحقيقة المخيفة، اصابنى شيء من الكدر، وليس ذلك بسبب ما ينتظرنى من حساب ربما اعقبه عقاب، كلا؛ فأنا فى رحاب رب رحيم، لا سيما وقد قُتلتُ غدْراً وغيلة، وهذه وحدها ربما افلتتنى من العقاب.. لقد تكدرت لاننى تذكرت للتو الطريقة البشعة التى تمت بها تصفيتى وطردى من الحياة الدنيا وارسالى الى هذا المكان الموحش.. وبالرغم من غرابة المكان، والخوف الذى يعترينى، وتوقف الزمان عند نقطة اللا عودة كدت ابتسم لولا توجسى من الوقوع فى مطب التحريات التى لا استطيع الجزم بان لا اتلعثم فى الاجابة عليها، والتى تنتظرنى ريثما تاتى الاشارة باجازة البدء فى طرحها من قبل المكلفين بها.
ربما اسرفنا نحن معاشر الشباب فى حلمنا بعالم مثالى، فالليلة التى سبقت فجر يوم القيامة، وانا إذ أطلق اسم القيامة هنا، لا اطلقه مجازا، فما رأيته عند فجر التاسع والعشرون من رمضان من اهوال كان فى الحقيقة اشبه باهوال القيامة؛ الناس يعْدون على غير هدى وهم فى ذهول تام، يهرولون فى جميع الاتجاهات كانهم سكارى وما هم بسكارى ولكنها زخات الرصاص التى نزلت على رؤوسهم بغير رحمة.. سحب الدخان تعرج متصاعدة الى السماء.. لعلعة السلاح التى تتقاطع وتتشابك معها صيحات الغضب وتاوهات المصابين تملا الزمان والمكان.. جثة ترقد هنا وجثة ملقية هناك.. مصاب يترنح هنا، وآخر حملته سواعد الشباب وذهبت به بعيداً.. ابواب جهنم تنفتح من جميع الاتجاهات.. شرذمة من الزبانية ببزاتها العسكرية وهى تحمل باياديها سياطا وعصيا طفقت تلهب بها ظهور (الاشرار ) (الآثمون ) الذين صدعوا رؤوس الطواغيت الجبابرة وأبَقوا عن ملكوتهم وملكهم الغاشم.
إن الموت فاتورة باهظة الثمن، ندفعها ثمنا ربما للحظات السعيدة القليلة التى جادت علينا بها الحياة..
لم ادر كم من الوقت لبثت داخل هذا الرمس المخيف قبل ان تعود روحى الى جزء من جسدى، ولكنى قبل هنيهة كنت وثلة من الشباب نجلس بجانب احد "المتاريس".. كنا نظن اننا فى مأمن من اى غدر، بل لم يكن فى حساباتنا شيء من هذا القبيل، لذلك جلسنا نتدارس مستقبلنا فى ظل دولتنا المدنية القادمة، لا سيما والاخبار قد حملت الينا نبأ توقيع الاتفاق والذى كان من المفترض ان يتم فى نفس اليوم الذى انفتحت علينا فيه ابواب الجحيم..
اصوات طلق نارى تاتى من ناحية الغرب..
يا للهول إذن "سينفض" السامر، وسينتشر القبح والشر، ويرفرف الموت باجنحته فى هذا الفضاء، الذى طالما رفرفت فى جوه حمائم السلام قبل قليل؛ حرية، سلام وعدالة.. مدنية خيار الشعب.. اهازيجٌ عطرت سماء الوطن، والاثير، والميديا، وحملتها رياح الثورة وطافت بها كل ارجاء الكرة الارضية.
السماء تسكب ادمعا، وكانى بها ترسل تعازيها فى حزن استباقىٍّ غاضب لما سوف يحدث بعد قليل..
لعلعة السلاح غطت على كل ما عداها.. هناك شرذمة من السفلة تقبل نحونا، بدأ جمعنا فى التفرق.. مدنياااااو.. احد الجلوس الذى كان يسمر معنا قبل دقائق ملقى على الارض، غارق فى دمائه، هو من قاسمنى حفنة من التمر كنا قد تسحرنا بها.. عرفته هنا فى ارض الاعتصام، وتبادلنا مع آخرين حراسة "الترس" .. كان يأمل فى وطن تزهر فيه احلامه البسيطة، ولكن انّى له ورصاصة الغدر كانت له بالمرصاد؟!!
2
فجأة احدهم يستل سكيناً ويوجهها نحو بطنى تحت الحجاب الحاجزمباشرة، احمرت الدنيا امام بصرى واخضرت، ثم اسودت.. وثمة انجُمٍ براقة صغيرة تتجافل يمنة ويسرة وتملآن ما بين هدبىّ.. صدى هتاف تدق به طبول راسى فيشق هديره طبل أذناى؛
ـ (الدم قصاد الدم، ما بنقبل الدية )..
ـ يا (نجيب حقهم، يا نموت زيهم )..
- دم الشهيد بى كم.. ثورة..
- ولا السؤال ممنوع.. ثورة..
- سقطت ما سقطت صابنها..
صورة المعتوه تطل من اطار بطول وعرض ثلاثين سنة من الدماء، والفساد، والقفز على رؤوس الازمات.. وهى نفس عدد سنين حياتى التى يحاول فيها هذا الجنجويدى الأخرق الامى الاجهاز عليها.. لم يكتفِ السافل بالطعنة النجلاء التى سددها الى بطنى، فاعقبها بعدة ضربات على رأسى بحجر ضخم تناوله من الترس، لماذا هذا الغل؟ تساءلت فى حنق والعتمة تملا الكون من حولى، وصورة المعتوه تكاد تخرج من اطارها.. نظرة شامتة، وغل مكبوت تبرق به عيناه، ومن بين انيابه الحادة تتقطر الدماء.. بعد ان اشبع رغبته الوحشية والتى كاد معها ان يتهشم راسى، قام الجنجويدى مع اخرين بربط قدمىَّ بحجرين اكثر ضخامة ثم سحبونى نحو الجسر، وعندما وصلوا الى نقطة محددة تعاونوا على حملى والقوا بى الى المياه.. لا ادرى كم من الوقت بقيت تحت المياه قبل ان يحيلونى الى هذه الحفرة التى لا يستطيع من يدخلها الخروج منها، فأنا لست كطائر الفينق لأخرج من تحت الرماد، ولكن روحى الوثابة التى ابت الا ان تعيش حرة، حتما ستحل فى بدن كل حر..
*سامدون: هنا بمعنى اذلاء

عوض ابراهيم التكينة
[email protected]





تعليقات 2 | إهداء 0 | زيارات 432

خدمات المحتوى


التعليقات
#1841303 [سودانى طافش]
0.00/5 (0 صوت)

07-09-2019 11:21 PM
لن استغرب أن كنت ابن استاذى البليغ فى اللغة ابراهيم التكينة


#1841192 [خليففة السمري]
0.00/5 (0 صوت)

07-09-2019 02:50 PM
.. إبداع مجنح وعاطفة جياشة تموج لهباً ثورياً .. وصدقاً لا يدانيه إلا المبدعين .. يسلم يراعك أخونا عوض


ردود على خليففة السمري
United Arab Emirates [عوض ابراهيم التكينة] 07-10-2019 06:49 PM
هلا بالسمرى.. من ذوقك يا امير..
طولنا من بعض وده كلو بسبب التهجير القسرى الذى فرضته علينا سياسة الكيزان.. شكرا على المرور الجميل يا جميل


عوض ابراهيم التكينة
عوض ابراهيم التكينة

مساحة اعلانية




الرئيسة |المقالات |الأخبار |الصور |راسلنا | للأعلى


المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 2025 alrakoba.net - All rights reserved

صحيفة الراكوبة