السياسة هل الشريعة مقصودة في ذاتها أم مقصودة لغيرها!!
هل الشريعة مقصودة في ذاتها أم مقصودة لغيرها!!
07-10-2019 02:53 PM
هل الشريعة مقصودة في ذاتها أم مقصودة لغيرها!!
يلاحظ المراقب أن نبرة تطبيق شرع الله دائماً ما تعلو وتجلجل خارج أروقة السلطة، بمعنى أننا لا نكاد نسمع صوت يطالب بتطبيق الشريعة من داخل السلطة، فكل سلطة حاكمة تدعي أنها تطبق شرع الله، وهذا الادعاء يصدُق فقط لو أن كل حكومة كانت صادقة مع نفسها وأقرت بأنها إنما تطبق فهمها هي لشريعة الله (هذا ما رأى عمر)، وتاريخ المسلمين منذ وفاة الرسول صلوات ربي عليه وسلامه يشهد بذلك، فحكومة أبو بكر الصديق ليست حكومة عمر وليست حكومة عثمان ولا حكومة علي رضوان الله عليهم أجمعين، كل واحد منهم حكم بحسب فهمه (هو) للنص في ضوء الواقع الذي عاش فيه، وكلهم ماتوا على أيدي رعاياهم (مع اختلاف في تسمم أبي بكر رضي الله عنه).
الأمر الآخر أن كل من يطالب بتطبيق الشريعة يطرح نفسه بديلاً وليس مصلحاً، بافتراض ضمني أنه هو الأجدر بتطبيق شرع الله، وأن ما عدا فهمه وفقه (السلف) إنما هو الضلال، وأي اجتهاد من عنده أو خروج عن نهج سلفه هو بالضرورة اصلاحٌ وتجديد للفقه، كما يقول (مفكرو الاسلام السياسي)، ثم تبدأ الاشارات الربانية والرؤى والنبوءات والارهاصات التي تمهد لاستيلائه على الحكم، وعادة ما يكون عن طريق السيف والسنان، لم يشذ عن ذلك معاوية ولا السفاح ولا المهدي ولا الترابي ولا حتى الخميني، فتلك سمة لازمة لا تنفك.
يقر كل مسلم بحكم إيمانه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي إلهي المنشأ، ولكن ينشأ الخلاف في كيفية ممارسة هذا الوحي الإلهي، فلكي نمارس القرآن فلا بد من إنزاله من أُولوهيته ليُصبح التفاعل معه ممكناً، وإلا سيظل عالقاً في عالم (الاطلاق) بعيداً عن عالم الانسان (النسبي)، ومن (لازم) القول أن كل فهم للدين إنما هو (فعلٌ) بشري، وظني، وقابل للخطأ، ومتغيِّر ونسبي ومرتبط بثقافة محيطه، وكل من يقول بغير ذلك فهو مدعٍ للألوهية والعياذ بالله، فالنص ثابت وفهمنا للنص متحرك بحركة الحياة.
نعود إذن لسؤال هل الشريعة مقصودةٌ في ذاتها أم أنها مقصودةٌ لتكريم الإنسان واخراجه من الظلمات إلى النور، وتحريره من ربقة التبعية للأحبار والرهبان بلا عقل إلى رحابة حرية الفكر والتدبر والسير في الأرض والنظر في آيات الآفاق والأنفس. وبالتالي وجب على كل مسلم أن يفرق بين ما هو (ذاتي) لا ينفك عن الشريعة بوصفها الدين، وبين ما هو (عرضي) تاريخي يتلون ويتغير بتغير حيوات الناس.
الاجابة عن هذا السؤال تستنهض أسئلة أخرى، على شاكلة لماذا أنزل الله تعالى القرآن، ولماذا أرسل الرسل وبعث الأنبياء، وهل حاجة الناس للرسل والأنبياء من أجل هدايتهم وإرشادهم إلى معرفة الله الحق الغيبية (ذاتي)، وبناء الانسان المتأمل والمنطلق بلا قيود في ملكوت الله، أم من أجل أن يُعلِّموا الناس الاتيكيت وشؤون دنياهم وأساليب معاشهم، وطرق علاجهم، وعلوم إدارة مجتمعاتهم وتنظيم جيوشهم، وعلى الرغم من أهمية هذه الأشياء إلا أنها تظل نسبية وبالتالي متغيرة (عرضي).
ليس في كتاب الله عبث ولا اتفاق بلا رؤية، وبالتالي فلا غرابة أن تكون أول آية في القرآن هي (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)، فمقصود الكتاب الحاوي على شريعة الله سبحانه وتعالى هو هداية البشر، تلك الهداية التي منعها الله تعالى نبيَّه الكريم صلى الله عليه وسلم (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ).
وأخيراً يمكن الجزم بأن الشريعة ليست قوانين لأن القوانين لا تنزل من السماء وإنما يضعها البشر بحسب ضرورات الحياة، فالقانون بهذا الفهم لا يخرج إلا لتنظيم سلوك (حادث)، وبالتالي فكل قانون إنما هو حادث، بينما الشريعة مطلقة من عند الله وليست حادثة، فقانون المرور، على سبيل المثال، ما كان له أن يُوضع لو لم يتم اختراع السيارات ولو لم تبرز الحاجة لتنظيم سيرها، فالشريعة إذن هي شعائر وقيم عامة ومبادئ حاكمة لحياة الناس على مستوى الفرد والمجتمع من أجل القربى إلى الله تعالى، وهي تنمو في ضمائر الناس بعيداً عن إكراه الدولة (لا إكراه في الدين)، أما الدولة فيحكمها صاحب الضمير اليقظ الذي يطبق تلك المبادئ في نفسه.
المشاركات والآراء المنشورة في صحيفة الراكوبة سواء كانت بأسماء حقيقية أو مستعارة لا تـمـثـل بالضرورة الرأي الرسمي لإدارة الموقع بل تـمـثـل وجهة نظر كاتبيها.